إنها الساعة الثالثة من عصر يوم تمّوزي شديد الحر في مدينة اللاذقيّة. يعلو فجأة صراخ حاد في شارع متوسط الازدحام، يترافق بنزول سائق سيارة أجرة من سيارته، يصفق الباب بعنف، يذهب نحو الباب المقابل، يفتحه، ويجرّ رجلاً خمسينيّاً خارج السيارة. يعود السائق إلى مقعده، وينطلق بسرعة هوجاء، فيما يقف الخمسيني واجماً. لا يسترعي ما حدث انتباه أحد، تستمر الحركة كما هي، نهرع نحو الرجل الخمسيني، ونقول: «الحمد لله ع السّلامة، أخذنا رقم السيّارة، سجله عندك». يرسم الرجل ابتسامة باهتة ويقول: «وشو بدي أستفيد من الرقم؟ ليش في عنّا قانون؟». الحكاية كما نفهمها ليست جديدة، بل باتت أمراً معتاداً: خلاف على الأجرة. «من سينما أوغاريت لهون (المشروع الأول) بدو 500 ليرة، كل يوم بجي بـ300»، يقول أبو أحمد، (كما عرّف بنفسه). لا يقتنع الرجل بجدوى تقديم شكوى، يكرّر ما قاله: «ليش في عنّا قانون؟». نقول: «نعم. هناك قانون، لكنّه لا يُطبق دائماً»، يضحك الرجل ويقول: «حط بالخرج».
«حلب غير»
قبل أيام، عادت شيم سليمان من حلب إلى اللاذقية، بعد زيارة استغرقت أسبوعاً. تتحدث سليمان، وهي دكتورة برتبة أستاذ مساعد في «جامعة تشرين»، عن زيارتها بشغف كبير. تبدي دهشتها من تفاصيل كثيرة، ومن بينها انضباط سائقي سيارات الأجرة. «توصيلة من أول حلب لآخرها (ضعف مساحة اللاذقية تقريباً) أخد الشوفير 400 ليرة بس»، تقول. وتضيف: «تفاجأنا كثيراً، السائقون يتقاضون الأجرة وفقاً لما تُظهره شاشات العدادات، وإذا تنازلت لأحدهم عن 50 ليرة (أقل من 10 سنتات) أبدى لك امتناناً كبيراً». وامتازت حلب، حتى في أحلك ظروفها، بقوّة النظام المروري، والتزام السائقين تقاضي أجور منطقيّة (راجع «الأخبار» 15 تشرين الأول 2016). اليوم، يستعدّ سائقو المركبات العامة في المدينة لتوحيد مظهرهم وفق «زيّ موحّد»، في موعد أقصاه الأول من آب القادم. لا تقتصر فوضى «أجور التاكسي» على اللاذقية وحدها، ففي دمشق مثلاً ستبدو الأجور أغلى، فيما تنخفض قليلاً في حمص، لكنّها تظل غير عادلة، وفي غير مصلحة الرّاكب.

هل قلت «قانون»؟
ما تقدّم، ليس سوى مثال بسيطٍ على ما تمكن تسميتُه مجازاً «تخلّي الحكومة عن القانون». وبرغم أن القانون يضع ضوابط لمعظم التعاملات بين السوريين، كما بينهم وبين مؤسسات الدولة، لكنّه يظل في معظم الأوقات «حبراً على ورق»، وسط اكتفاء الجهات الحكومية بأداء دور المتفرج. وأفرز هذا الحال تفلّتاً غريباً من نوعه، إلى حدّ ابتداع بعض الأشخاص في مواقع المسؤولية «قوانين» على هواهم، وإلزام الجميع بتنفيذها، لتكون أمام «دولة داخل الدولة». مثلاً، لا ينسى سائقو خطّ اللاذقية ـــ بيروت، ولا كثير من المسافرين على هذا الخط، رئيس مفرزة أمنيّة في نقطة «العريضة» الحدودية. فلسنوات طويلة، سنّ أبو علي، قانوناً، يمنع أيّ أنثى لا تعود قيودها المدنيّة إلى الساحل، من العبور إلى لبنان عبر «العريضة»، ما لم يكن برفقتها أحد ذكور أسرتها! تغير الحال مع نقل أبو علي إلى مكان آخر، وعادت «القوانين السورية» إلى السريان!

مرحباً أيها الفساد
يبدو جليّاً أنّ أحد أهم أسباب تردّي سلطة القانون، بقاء معظم بنوده في إطار الحيّز النظري، وانحسار المتابعة، والتقصير في معالجة الشكاوى في معظم القطاعات الحيوية، ولا سيّما الخدمية. وأمام استقالة بعض «الجهات الحكومية» من وظيفتها الرقابيّة، ملأت الفراغ سريعاً تعاملات تستند إلى «الأعراف» أحياناً، وتنحدر أحياناً لتشبه «قانون الغاب»، حيث الغلبة للقوي دائماً، ولا سيّما حين يتعلّق الأمر بتعاملات مادية (بيع وشراء واستئجار). ولا يقتصر الأمر على التعاملات بين المواطنين أنفسهم، بل ينسحب على تعاملاتهم مع مؤسسات الدولة. أوضح الأمثلة في هذا السياق، عقود الإيجار التي تُوثَّق في البلديّات وفق أجور وهميّة، متواضعة إلى حد مضحك. استأجر محمد العلي قبل شهرين شقة «ديلوكس» في حيّ المالكي الدمشقي.
«إذا ما أنا ارتشيت، رح يرتشي مديري. وبالحالتين رح يدفع المواطن رشوة»

بدل الإيجار الفعلي كان 700 ألف ليرة (1200 دولار)، أما ما سُجل لدى «البلدية»، فكان ألفي ليرة سورية فحسب! «مشان ما يدفع صاحب الشقة ضرايب كبيرة»، يقول محمد، ويضيف: «أنا ما عندي مشكلة، يصطفل منو للدولة». وتُعد الرسوم المستوفاة على عقود الإيجار واحداً من أنشط المسارب التي تتسرب عبرها «أموال الخزينة»، برغم تحول سياسات الحكومة نحو النمط الجبائي بطريقة غير مسبوقة، ومن دون أن يبدو غريباً أن الفئات الأضعف اقتصاديّاً هي المُستهدف الأساسي من هذه السياسات، فيما ينجو أصحاب العقارات (على سبيل المثال).

«نعم... أنا مرتشٍ»!
حتماً، أسهم التفلّت المذكور في استشراء الفساد، وخروجه من دائرة «الاستتار» إلى مرحلة العلنيّة الوقحة، بما يوحي بأنه ممنهج. يضحك سليم (اسم مستعار) الموظف في إحدى الدوائر الحكومية في دمشق، ويقول: «نعم، أنا مرتشٍ». لا يردّ الرجل الأمر إلى «ضعف الرواتب وسوء الحال» كما يفعل الكثيرون، بل يقول: «إذا ما أنا ارتشيت، رح يرتشي مديري. وبالحالتين رح يدفع المواطن رشوة، ورح يمشّي شغلو ولو كان مو قانوني، بقى خليني أستفاد أنا حبيبي». قبل شهور، تواصلت السيدة ضحى مع «الأخبار»، وعرضت مشكلتها مع «شركة كهرباء اللاذقية». لسنوات طويلة كانت السيدة تؤجر عقاراً تمتلكه في اللاذقية، للمستأجر نفسه. بعد أن ترك المستأجر المنزل، فوجئت المالكة بإزالة موظفي «الكهرباء» عدّاد الشقّة، بسبب عدم تسديد الفواتير. «خمس سنين الفواتير ما عم تندفع، وأنا مالي خبر، كيف كانوا تاركين العداد؟» تقول السيدة، وتضيف: «طبعاً كان عم يدفع المعلوم، ويرشي الموظف». بعد مراجعات كثيرة، وتواصل مع مدير الشركة من قبلنا، ومن قبل «تلفزيون الخبر» المحلّي، كان الحل الوحيد المتاح، تخفيض الفاتورة جزئيّاً، فـ«حق الدولة لا يموت»، وسددت السيدة مبلغاً كبيراً ثمن كهرباء لم تستهلكها.

القانون «عبءٌ» على الملتزمين!
الطريف، أنّ التزام القانون يتحول في بعض الحالات إلى عبءٍ على ملتزميه، فيما يواصل المتفلّتون منه حياتهم سعداء. يضرب رامي، وهو محامٍ من أبناء اللاذقيّة، مثالاً بسيطاً. «جاران يستخدم كلّ منهما مولّد كهرباء، أحدهما رخّص وفق القانون، والآخر لا. حين اشتكى جيرانهما بسبب الإزعاج، أُزيلَ المولد المرخّص في سرعة قياسية، وفق ما ينص عليه القانون والترخيص. أما الآخر، فما زال يعمل حتى الآن، لأنّ إزالته تحتاج ضبوطاً وشكاوى، وقرارات قضائيّة»!