قبل عشرين عاماً، قام المخرج السينمائيّ المكسيكيّ سيرجيو آراوو بعرض فيلم بعنوان «يومٌ بلا مكسيكيّ». يتناول سيناريو الفيلم أحداث يومٍ عاديٍّ في الولايات المتحدة الأميركية في حال اختفى فجأةً العمّال الوافدون عبر الحدود الجنوبيّة. هذا الفيلم كان قبل التنافس الانتخابي بين حزبي واشنطن على سياجٍ وأقفاصٍ لمنع تدفّق المهاجرين، أو اليد العمالة الرخيصة التي يحتاج مركز الإمبراطورية إلى استغلالها للحفاظ على هيمنته، إلى أرض الحلم الأميركي. لا أريد أن أفسد الفيلم لمن يودّ مشاهدته، لكن عنوانه واضحٌ بإيحائه أن أيام سكّان الولايات المتّحدة لن تكون على ما يرام في حال اختفى المكسيكيون عن وجه الأرض، أو دعوا إلى إضرابٍ عماليٍّ عام مثلاً. التأثير الاقتصادي للعمّال الوافدين يطال القطاعات كافة من دون استثناء، وهو غالباً ناتجٌ عن حاجة في سوق العمل لا يمكن تلبيتها بالعمالة المحلّيّة لسببٍ أو آخر.إذا ما تصوّرنا السيناريو نفسه في لبنان من دون مكسيكيين، لن يتغيّر شيءٌ غير غياب التملّق إلى المغترب كارلوس سليم الذي رُوِّجَ له في يومٍ من الأيّام قبل الانهيار كمنقذٍ. لكن إذا أغمضنا أعيننا وحلمنا بيومٍ لبنانيٍّ من دون سوريٍّ واحد ضمن مساحة الـ10452 كيلومتراً مربّعاً المقدّسة، فالأمر يختلف كليّاً. أولاً، يخفّ الاكتظاظ في السجون، ما يسمح للأكثريّة اللبنانية في سجون الوطن، ومنهم كثرٌ مظلومون بالمناسبة، بأن «يترحرحوا» أكثر في زنزاناتهم وأقبيتهم. رغم أن نسبة السجناء السوريين من عامة السكان السوريين في لبنان تقلّ كثيراً عن نسبة السجناء اللبنانيين من عدد السكان في الوطن، غير أنّ صيت الإجرام يلتصق بالأوّل.
نعم، هناك سوريون يرتكبون جرائم مختلفة في لبنان، معظمها جنَح صغيرة وبعضها شنيعٌ جدّاً يتحوّل وقوداً عنصريّاً لمن يشتهيه، لكن ماذا تفعل غالبيّة السوريّين المقيمين في لبنان الذين لم ولن يرتكبوا أي جرم؟ الإجابة عن هذا السؤال ترسم صورة يومٍ في لبنان إن اختفى السوريّون عن مساحته، أو دعوا إلى إضرابٍ عماليٍّ عام مثلاً. طبعاً، عندما يبخّ العنصريّ سمَّه على السوريّ فهو لا يعني العائلات المالكة لمصارف لبنان التي تذلّ من أودع ماله عندها، فمليارات المودعين اللبنانيين والسوريين وغيرهم التي استولى عليها آل الأزهري والصحناوي وغيرهم تجعلهم لبنانيين أصيلين. «السوري» غير المرغوب فيه في لبنان هو العامل الذي يعفي اللبناني من أعمالٍ لا يرى اللبناني أنها تليق به. في الواقع «السوري» مرغوب جدّاً من الاستغلاليين الرأسماليين، فهو يقلّص الكلفة عليهم ويسهّل لهم استغلال العامل اللبناني.
حماية العامل المحلّي واجب على وزارة العمل، والحجة الشائعة في الحملة المستجدّة على العمّال السوريين هي أنّهم يقومون بأعمالٍ بأجرٍ أقل من العامل اللبناني وفق ما ينصّه القانون باطلة، فالمشكلة هنا ليست في العامل بل في تطبيق القانون والمكلّفين تطبيقه. فجأة، وفي خضم موجة التحريض على العمّال السوريين، تحرّكت الأجهزة الموكلة حماية القانون وتطبيقه وبدأوا حملة ملاحقة لعمّالٍ «أجانب» مخالفين لشروط إقامتهم المكبّلة. طبعاً لم تبدأ حملة الأمن العام عند الغربيين الذين يديرون مؤسسات استعمارية فادحة تعيث فساداً داخل حدود لبنان وخارجها المعفيّين من تأشيرة عبورها. هؤلاء يتقاضون أضعاف رواتب العمّال المحليّين الذين يقومون بعملهم عنهم، ولم يجرؤ وزيرٌ ومديرية أمنٍ على مساءلتهم أو أربابهم عن أعمالهم أو عن أحقيّة توظيفهم قبل اللبنانيّ. وفي المناسبة، العشرات ممّن يدخلون ويعملون في لبنان بفيزا سياحية يعملون على التأكّد من استمرارية أزمة اللجوء ويمنعون الدولة اللبنانية من إيجاد حلول مع الشقيقة الأبدية. ارتأت الدولة اللبنانية بحكوماتها ومؤسساتها الأمنية تنفيس الإحباط العام بـ«فشّة خلقٍ» ضد العمّال السوريّين الذين قد تشوب ظروف إقامتهم شائبة.
أيّها المواطن ورجل الأمن والسّياسي اللبنانيّ، تدركون جيّداً أن لا غنى لكم عن العامل السوري. إن أضرب العمّال السوريون ساعاتٍ عن العمل تعمّ الفوضى ويغرق لبنان في الوسخ. إذا كان يزعجكم فعلاً وجود عمّال «أجانب» يقومون بأعمال لا يريد القيام بها آخرون وبرواتب بخسة، فالحلّ بسيط. إن أصرّيتم على المشاركة في حصار سوريا تلبية لرغبات الغرب وأوامره، لن ينهض اقتصاد سوريا ولن يعود عمّالها إليها. صدّقوني هم ليسوا هنا لسواد عيونكم ولا لرواتب بلا حقوق أو حماية. هم هنا مجبرون، ولن ينهضوا ويخلصوا، ولن تنهضوا وتخلصوا إلا سويّاً.