يحتفل الموارنة في 9 شباط بعيد القدّيس مارون شفيع طائفتهم. كان مار مارون راهباً سريانياً متنسّكاً، عاش في شمال سوريا بالقرب من جبال طوروس، أو ما كان يسمّى بمنطقة قورش قرب أنطاكيا في عهد الإمبراطورية الرومانية، في منتصف القرن الخامس للميلاد. في منسكه، شيّد مارون خيمة من جلد الماعز، وأقام فيها لفترات قصيرة، إذ كان يقضي وقته في العراء مصلّياً ومتعبّداً، ليل نهار، وفي فصول السنة كافةً.
مسلسل الخلافات المارونية
من المرجّح أن يكون القدّيس مارون قد توفّي عام 410، ونشب خلاف بين أبناء المناطق المجاورة على الاستئثار بجثمانه لتكريمه. ومن المرجّح أيضاً أن يكون أهالي القرية المعروفة اليوم ببراد، في شمال سوريا، هم من فازوا بالجثمان، وبنوا له كنيسة، لم يبقَ من آثارها الكثير.
فلماذا الاحتفال بعيده في 9 شباط؟ نقلاً عن المطران إسطفان عوّاد، أحد أساقفة القرن الثامن عشر: «اكتشف البطاركة الموارنة أنّ عيد القدّيس مارون غير مسجّل في قائمة أعيادهم الصادرة بأمر من البابا زخيا العاشر عام 1647، فجعلوا عيد القدّيس مارون في التاسع من شباط وهو يوم عيد مار يوحنا مارون الذي نقله بدوره البطريرك يوسف إسطفان عام 1787 إلى 2 آذار». بينما الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وسائر الكنائس الأرثوذكسية التي تقدّسه تحتفل بعيده قبل الموارنة بمئات السنين في 14 شباط.

مجزرة يهودية ضد الرهبان
لم ينشئ مار مارون وتلاميذه أيّ مدرسة أو رهبنة، ولم يشيّدوا ديراً باسمه قبل القرن السادس، حين اشتهر دير مار مارون على ضفاف نهر العاصي في سوريا، بعد المجزرة التي أودت بحياة 350 راهباً، إثر الانشقاق الكنسي والخلاف اللاهوتي حول طبيعة المسيح والتي نفذتها «مجموعة من اليهود الأشرار» كما ورد في وثائق تلك الأيام.
لم ينشئ مار مارون وتلاميذه أي تيار ديني خاص، تولّدت منه رهبنة أو طائفة، بشهادة أبي الفداء والأب لامنس، اللذين ينفيان أيّ علاقة لمارون أو تلاميذه ببناء دير مار مارون على العاصي. وإنما اقتصر دور مار مارون وتلاميذه على التنسّك وحياة الزهد والتقشف، حسبما قال تيودوريتس.
نسبة المارونية إلى مارون الناسك، هو طرح كرّسه مرهج بن نيرون وغيره، من طلاب المدرسة المارونية في روما. وذلك يدفعنا إلى استنتاج مفاده أنّ ما من أحد قال جازماً بأن المارونية تعود في أصلها إلى مارون الناسك، قبل القرن السابع عشر. غير أنّ لهذا الادعاء سبباً تمثّل في ما عاناه طلاب المدرسة المارونية في روما من مشاكل جمّة في الدفاع عن كاثوليكية طائفتهم، وفي رفض الاتهامات التي وجّهت إليهم بأنهم من أصحاب البدع. كذلك توسّل هؤلاء الطلاب هذا الادعاء للتدليل على كاثوليكيّتهم، حيث إن روما تعترف بقداسة الناسك مارون، فلا تعتبره بالتالي خارجاً على تعاليمها. في هذا السياق، يجدر أن نذكر أن الكاردينال بارونيوس الإيطالي هو أول من ربط المارونية بالناسك مارون، في كتاب عن التاريخ الكنسي، طبع في روما في أوائل القرن السابع عشر. ولا تخفى مساهمة هذا الكاردينال مع الفاتيكان، في استيعاب الكنيسة المارونية، التي ظلّت قروناً طويلة خارجة على طاعة الباباوات.

الموارنة من فائض القوة إلى فائض الضعف
بعد مرور أكثر من 1600 سنة على وفاة مار مارون، ما زالت الطائفة المارونية تشهد دورة جديدة من الصراع على هويّتها ودورها وغدها. عندما توفّي الناسك مارون، تقاتل محبّوه حول من يحتفظ بجثمانه. ومن يومها، يختلف الموارنة حول تسميتهم ومرجعيّتهم، إلى درجة أنهم لا يتفقون على مكان تنسّك ودفن شفيعهم. وحول كل محطة تاريخية يتباين الموارنة ويختلفون.
واليوم ينقسم البيت الماروني إلى عدة غرف وطوابق، تتوزع فيها القوى السياسية بين «8 و14 آذار وبين بين» وما بينهما من فرق واتجاهات.
تزايد شعور الجمهور الماروني بغياب دوره وحضوره، وقد وصل إلى إعلان موت الكيان الذي أسّسوه كما يدّعون، والذي وجد لأجلهم كما يرغبون، وبات اليوم في مهبّ الضم والتقسيم في مشاريع «سايكس - بيكو» جديدة. كل هذا فاقم شعور الماروني العادي بأن دوره مهمّش، فأضحى كمن «يتسوَّل» دوراً فقده، أو كمن يراهن على وهم غير ممكن التحقق في ظل موازين القوى على الأرض التي تبرز ضعفه وهشاشته، فأضحى بلا وزن أو تأثير، فلا أحد يحسب له حساب إلا في صفوف الكومبارس أو تلوينة مستحبة.
في ظل هذا المشهد، يطمح بعض الموارنة إلى لبنان القويّ أو الجمهورية القوية في زمن انتقلوا فيه من فائض القوة إلى فائض الضعف.

ضياع الموارنة بين الشرق والغرب
إنّ ارتباك المواقف السياسية المارونية اليوم ناتج تاريخياً من أن الطائفة المارونية يتجاذبها منذ نشأتها في القرن السابع وحتى اليوم، تياران أساسيان:
1- تيار أول مشدود باتجاه الغرب وثقافته ومشاريعه، وقد عملت الكنيسة اللاتينية وفرنسا على تشويه ذاكرة الموارنة لتسهيل ربطهم بمخططات أوروبا الاستعمارية. وبفضل الدعم القوي الذي توفر لهذا التيار، تمكّن من إرباك الجمهور الماروني على نطاق واسع.
2- تيار ثانٍ متمسك بجذوره المشرقية الأنطاكية. وقد ظلّ هذا التيار محصوراً في إطار بعض النخب والأوساط المارونية.
لذلك، فمن الضروري العمل على وعي وإحياء الذاكرة الحضارية التراثية الثقافية التي تشدّ هذه الطائفة إلى جذورها الحضارية، وخاصة أن المارونية سورية المنشأ: الناسك مارون شفيعها تنسّك في جبل سمعان في شمال سوريا. والمارونية ولدت في دير مار مارون على العاصي، من رحم التيار الاستقلالي الوطني الذي ظهر في سوريا ردّاً على الهيمنة البيزنطية. وتاريخ الطائفة المارونية غنيّ بالمواقف الوطنية المضيئة، حيث تصدّى فريق من الموارنة لكلّ استعمار خارجي إن كان بيزنطياً أو صليبياً أو غربياً أو صهيونياً. لكن هذه المواقف مطموسة في ثنايا التاريخ بهدف تغريب الموارنة عن واقعهم وتغذية عدائهم لمحيطهم.
إن بداية خلاص الموارنة من ازدواجيّتهم تنطلق من وعي واقعي للمعالم الحضارية التاريخية التي واكبت مسيرتهم، لأن إدراك البعد الفكري التراثي لجذور الطائفة يساعد على ارتباطها وتجذّرها بهذه الأرض، وليست كما يحاول أن يصوّرها البعض امتداداً للغرب ومشاريعه.
هل يستعيد الموارنة طريق الحجّ إلى المشرق الذي نشأُوا فيه، وليس إلى الغرب الذي استغلّهم واستلبهم.؟ أم يبقى السواد الأعظم من الموارنة في حالة ضياع وسؤال مستمرّ عن الهوية، وتائهاً في خيارات متناقضة بين الغرب والمشرق؟

* كاتب وناشر لبناني