في كلّ مرّة يعقد مجلس النواب جلساته التشريعية، يُثار نقاش دستوري حول امكانية المجلس في التشريع وممارسة دورٍ آخر لا يرتبط بانتخاب رئيس للجمهورية وفق المواد 49 و74 و75 من الدستور، في حين أن الإطّلاع على محتواها، على ضوء التجربة الفرنسية، لا يعوزه جهد للاستنتاج بأن مقاصد المشرّع الدستوريّ اتجهت الى امكان ممارسة المجلس الوظيفة التشريعية عند تعذّر الوظيفة الانتخابية، وإن كان الدستور قد دعا المجلس إلى الاجتماع الفوري والحكمي، وذلك للأسباب الآتية:أولاً، تنصّ المادة 74 من الدستور على أنه «إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئيس او استقالته أو سبب آخر فلأجل انتخاب الخلف يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون...».
يُستشفّ من هذا النص بأنه حدّد الطبيعة الحكمية والفورية للمجلس عند خلوّ سدة الرئاسة. الا أن تفسير هذه المادة لا يتوقف عند حدود معانيها ودلالاتها، بل يستلزم، بالضرورة، العودة الى تجربة الجمهورية الثالثة، كمصدر مباشر ولازم للدستور اللبناني، وذلك عندما نصّت المادة ٤ من القانون الدستوري الفرنسي الصادر في 1875 على أن «كلّ الجلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ أو مجلس النواب خارج دورات الانعقاد غير شرعية باستثناء الاجتماع الفوري من أجل انتخاب رئيس الجمهورية»، الأمر الذي يعني بأن الجلسات النيابية الحكمية أو الفورية، في لحاظ المادة 4، تُعقد ولو كان البرلمان خارج دورات الانعقاد، وهو ما قصدته المادة 74 عندما أجازت الاجتماع الفوري، أيّ الالتئام من دون مراعاة قيد أدوار الانعقاد الوارد في المادة 32 من الدستور.
ثانياً، إن مجلس النواب الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية، بحسب المادة 75 من الدستور، يعتبر هيئة انتخابية لا اشتراعية، وهو اعتبارٌ يمنع المجلس الذي ينعقد في جلسة مخصصة لانتخاب الرئيس في التشريع، وبامكانه، في آنٍ، التشريع خارج نطاق الجلسة الانتخابية، بما ينسجم مع ما أشار اليه أحد كبار الفقه الدستوري في فرنسا (دوغي)، في معرض تفسير الدستور الفرنسي آنذاك، إلى أن وجود الجمعية الوطنية يتحدّد عند اجتماع النواب والشيوخ سوياً، واعلان رئيس الجلسة أن الجمعية الوطنية باتت بحكم المنعقدة، اذ عندها فقط يمكن الحديث عن تحوّل هذا الاجتماع الى هيئة انتخابية ينحصر دورها في انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبالتالي خارج هذا الاجتماع يظل البرلمان محتفظا بصلاحياته التشريعية...
ثالثاً، لو سلّمنا جدلاً بأن المجلس لا يحتفظ بسائر صلاحياته عند خلو سدة الرئاسة، فإنّ نظرية «الهيئة الانتخابية» مُعدّة للتطبيق لفترة زمنية لا تتجاوز الأيام أو الأسابيع، وبالتالي تمدّد هذه الفترة ينعكس على مفهومها ونتائجها. ذلك أن إعتبار المجلس، طيلة فترة الشغور الرئاسي، هيئة انتخابية حصراً، يقودنا إلى حظر ممارسة المجلس النيابي صلاحياته الرقابية، أيّ مراقبة ومحاسبة الحكومة، وإفراغ المواد 68 و70 و71 من الدستور من مضمونها، واستطراداً إجازة طغيان الحكومة على سائر السلطات الدستورية خلافا للفقرة «هـ» من مقدمة الدستور بنصّها على أن «النظام قائم على الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها».
رابعاً، في قراءة متأنّية ومترابطة لكلّ أحكام الدستور، يتبيّن لنا بأنّه لم يحجب التشريع عن مجلس النواب خلال استحقاقات دستوريّة مماثلة، إنما جلّ ما أوجبه هو تقييد التشريع لا منعه، وذلك عملاً بالمادة 59 من الدستور عندما يمارس رئيس الجمهورية صلاحية تأجيل انعقاد المجلس إلى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً، كذلك عملاً بالمادة 32 من الدستور بنصّها: «يجتمع المجلس في كلّ سنة في عقدين عاديين، فالعقد الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار، والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كلّ عمل آخر، وتدوم مدة العقد إلى آخر السنة»، واستطراداً المادة 33 من الدستور في تحديد برنامج الدورة الاستثنائية ، ومثلها المادة 78 بشأن حظر التصويت على أيّ عمل آخر عند تعديل مادة دستورية، إنما لا تجيز هذه القيود تفسير عبارة «التئام المجلس كهيئة انتخابية...» في إطار «العقد الاستثنائي او الحكمي»، كون هذا التفسير يؤدي إلى تغيير ماهية ومضمون المادتين 32 و33، وابتكار دورة استثنائية تخرج، أساساً، عن أحكام الدستور.
خامساً، تعمّد المشرّع الدستوريّ في توصيف الالتئام بأنه فوري وحكمي للمجلس لإنتخاب الرئيس بموجب المادتين 73 و74 من الدستور، وهذا العمد يُعزى إلى حظر الفراغ، والعمل، من دون ابطاء، على تفاديه في سلطة دستوريّة وازنة، لكنّه ليس مُوجباً لنقله إلى سائر السلطات الدستورية، بدليل أن المشرّع نفسه أناط الحكومة، وكالةً، ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية عند خلوّ سدة الرئاسة سنداً لأحكام المادة 62 من الدستور. ويصمد هذا الاعتقاد أمام ما جاء في قرار المجلس الدستوري رقم 6/2023، عندما حسم الجدل بتفسيره للمواد 73 و74 و75 من الدستور، معتبراً أنّ النصوص الدستوريّة متممة بعضها للبعض الآخر، وأن المادة 75 جاءت مكملة للمادتين 74 و74 اللتين توجب الأولى منهما على المجلس، إذا لم يدع للاجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية قبل موعد انتهاء الولاية بشهر على الأقل وشهرين على الأكثر، أن يجتمع حكماً في اليوم العاشر الذي يسبق ذلك الموعد، وتوجب الثانية على المجلس أيضا، في حال خلو سدة الرئاسة، أن يجتمع فوراً، أي أن بامكان، لا بل من واجبه، الاجتماع ولو كان خارج الدورات العادية التي يحق له فيها التشريع خلال فترة الشغور الرئاسي، لا سيما أنه لو كانت نية المشرع الدستوري حصر عمل المجلس النيابي، في فترة الشغور الرئاسي، بانتظار انتخاب الرئيس بدون أي عمل آخر، لكان استعمل عبارات آمرة كاعتماد عبارة «عند خلو سدة الرئاسة يصبح مجلس النواب هيئة ناخبة ولا يحق له القيام بأيّ عمل آخر قبل انتخاب رئيس الجمهورية».
جرّاء ما تقدّم، يتبيّن لنا أنه لا يمكن للالتئام الفوري والحكمي للمجلس وفق ما أشارت اليه مادة دستورية أن يحجب العمل بمواد دستورية أخرى أو أن يمنع العودة إلى الأصل التاريخي والعلمي للموجب الدستوري (الالتئام الفوري)، ذلك أن الفراغ التشريعي بشقيه، الكامل والجزئي، يُسد في مناهج التفسير التاريخي والعلمي لا السياسي والطائفي!

* باحث دستوري وأستاذ جامعي في القانون العام.