قولنا والعمل «ولكن لم يتغيّر الكثير منذ انتخاب الرئيس الجديد»، تُكرّر هذه التعليقات بعيد انتخاب كل رئيس أميركي (تقريباً)، ومردّ ذلك يكون دائماً «الدولة العميقة». لكن ماهيّة هذه الدولة تعامل بكثير من الغموض وكأنها تعمل بطريقة شبحية، والحقيقة أنها تعمل في العلن، ويمكن تلمّس أسلوب عملها بعيداً عن كل نظريات المؤامرة.يُعدّ مجلس العلاقات الخارجية (CFR) أكثر مراكز التفكير تأثيراً في السياسة الخارجية الأميركية، وهو من أول المراكز التي أعلنت منذ تأسيسها بصراحة أن الهدف هو ضمان تمرير مصالحه بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.
بايدن وحكومته (من موقع البيت الأبيض)

المركز يمثّل الطبقة المالية في الشرق الأميركي بشكل خاص، وشركات النفط والغاز والسلاح والأدوية. وهو يعمل على تنظيم التنافس الداخلي بينها، ويضع دراسات (تتبنى المذهب النفعي البحت) تظهّر مصالح هذه الطبقة في السياسة الخارجية على أنها قضايا أمن قومي ومصالح وطنية أميركية، وذلك عبر عملية بناء الإجماع.
إلا أن المجلس لا يحقق مصالحه ببناء الإجماع والأقوال فقط، بل يمررها بأقل ضجيج ممكن عبر تغلغله في السلطة التنفيذية بأشكال متعددة لا يمكن رصدها من خلال تتبّع تمويل الحملات الانتخابية، ومنها: المناصب والمجالس الاستشارية، مجموعات بحثية، اللجان المستقلة، استضافة المسؤولين الأميركيين والأجانب - حتى أولئك الذين تقاطعهم الإدارة وأحياناً بشكل سري - وأخيراً أكثرها مباشرة سياسة «الباب الدوّار».

المال والبنون: الدائرة المغلقة
يضم مجلس العلاقات الخارجية خمسة آلاف عضو تقريباً. لتصبح عضواً في نادي النخبة هذا، يجب أن يتم قبول طلبك من قبل مجلس إدارة - منتخب اسمياً ولكنه في حقيقة الأمر معيّن - يمثل نخبة النخبة المالية الأميركية المؤسِّسة؛ جي بي مورغان وديفد روكفلر وأندرو كارنيغي ولاحقاً هنري فورد. ولطالما عكست الهيمنة على المجلس مَن مِن هؤلاء هو زعيم هذه القلة الثرية المتركّزة في نيويورك. ففي البدايات كانت عائلة مورغان، وبعدها لعقود هيمنت عائلة روكفلر، وبعد الحرب الباردة وصعود شركات التحوّط بدأت الأخيرة في بسط هيمنتها على المجلس ابتداءً بجورج سوروس وبول سينغر وانتهاءً اليوم بلاري فينك. ما يزيد نخبوية المجلس هو سرية جلساته، حتى إن القانون الداخلي يقضي بأن يفصل مجلس الإدارة أي عضو يسرّب معلومات تمّ عرضها في الجلسات المغلقة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

بحسب كتابَي لورانس شوب حول المجلس واللذين يغطيان عمله منذ النشأة إلى عام 2017، فإن البنية الطبقية داخل المجلس شديدة العمودية، وتتركز الصلاحيات في مجلس الإدارة. كما أن علاقات القرابة بين الأعضاء تتركز بين النخبة المالية فيه. أما في ما يتعلق بالمناصب الإدارية التنفيذية، كرئاسة المجلس وإدارة الأقسام ورئاسة مجموعات البحث وغيرها من اللجان الفرعية، فعادة ما تُنسب إلى جيش «المحترفين» أو المهنيين، من الأكاديميين والموظفين السابقين - واللاحقين - في الإدارات الأميركية. ففي عام 2005، ضم المجلس 1254 باحثاً وزميلاً وبروفيسوراً وإدارياً جامعياً إلى جانب 496 مسؤولاً حكومياً. المحظوظون من بين هؤلاء سيتم دمجهم بالتماهي مع الأوليغارشية لتجديد دمائها. وإذا ما نظرنا إلى الخلفية الإثنية لأعضاء المجلس بالمقارنة مع التراتبية الطبقية، فسنجد أن ما يشاع عن تحكم اليهود بالخارجية الأميركية غير دقيق، وهو ناتج عن لبس يخلط الحقائق ببعضها.
تتشكل الطبقة الحاكمة في المجلس بغالبيتها من أثرياء الساحل الشرقي البيض البروتستانت، مع بعض العائلات اليهودية. أما منشأ الخلط فيأتي من الأسماء اللامعة التي صعدت من خلال عملها في المجلس، من أمثال كيسنجر وأولبرايت وبريجنسكي من بين آخرين كثر. لكنّ هؤلاء يمثّلون مجموعة أوسع من المهاجرين وأبنائهم، خصوصاً المهاجرين من أوروبا. والمجلس كأي مؤسسة استعمارية ينظر إلى هؤلاء كجماعة وظيفية يستفيد من خبراتها ومعرفتها بالدول المستهدفة، كما يوظّف عداءها المسبق لأوطانها الأصلية وروسيا كدافع ذاتي لخدمة الإمبراطورية. علاقة الدولة العميقة النفعي مع الجالية اليهودية كأقلية وظيفية تخدم الإمبراطورية في الوقت الذي تبدو فيه كأقلية مسيطرة هو النمط ذاته في علاقة الدولة العميقة مع كيان العدو الصهيوني.

الباب الدوّار ومحاسن الصدف
عدد القرارات المصيرية التي خرجت من رحم المجلس ومنظّريه في السياسة الأميركية يكاد لا يُعد ولا يُحصى. ولكن إذا ما نظرنا إلى عدد من أبرزها نجد أنه عادة ما يصدف أن المسؤولين عن تنفيذ هذه السياسات من مستوى الوزير إلى مستوى الإداري في الميدان مرتبطون في الوقت نفسه بمجلس العلاقات الخارجية والمؤسسة أو المؤسسات الاقتصادية المعنية بشكل مباشر بهذا التدخل، منها الانقلاب على محمد مصدّق في إيران والانقلاب في غواتيمالا وحتى احتلال العراق بقضّه وقضيضه. الأمر نفسه ينطبق على إدارة ملف كورونا واللقاحات. وإذا نظرت إلى رؤساء البنك الدولي ستجد أن سيرتهم الذاتية تشمل: العضوية في مجلس العلاقات الخارجية، تسلّم المناصب الحساسة في الوزارات التي يهيمن عليها المجلس، والعمل لدى إحدى الشركات التابعة لروكفلر وبنك «تشايس مانهاتن». المجلس هنا لا يكتفي بالبحث وبناء إجماع حول «المصالح الوطنية» لتنفيذها، بل يرسلها مع «مرسال»، عليه التطبيق، وفي حالات تمّ توثيقها لم يتكلف عناء البلاغ، أي أن بعض السياسات تم تمريرها من خلال الوزارات المعنية بالتنسيق مع المجلس، بتعتيم مدروس على المسؤولين المعنيين.
تغلغل المجلس في السلطة التنفيذية الأميركية صادم. فمنذ صعود نجمه خلال الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، هيمن على وزارات الدفاع والخارجية والخزانة (عند الضرورة هيمن على وزارات الزراعة والتجارة والصحة وغيرها) إضافة اإ الأمن القومي والاستخبارات (كان ألان دالس وهو من أهم رجالات المجلس أحد أول مدرائه، وكان أخوه وزيراً للخارجية، والأول كان يقول ممازحاً إنه على رأس وزارة الخارجية للدول غير الصديقة)، كذلك الأمر بالنسبة إلى ممثلي الولايات المتحدة في المنظمات الرئيسيّة للنظام العالمي التي أنتجها المجلس، ومنها البنك الدولي، الأمم المتحدة، حلف الأطلسي، كل هذا على سبيل المثال لا الحصر، إذ إن هناك أيضاً لجاناً رديفة لهذه الوزارات يسيطر عليها المجلس.
تتشكل الطبقة الحاكمة في المجلس بغالبيتها من أثرياء الساحل الشرقي البيض البروتستانت


يظهر الجدول هيمنة المجلس على قمة هذه الوزارات. أما في ما يخص المراتب الدنيا في هذه الوزارات والمؤسسات، فإن مهمة رصدها بالكامل شبه مستحيلة. بحسب شوب، سيطر المجلس على 80.2% من المناصب العليا في الخارجية الأميركية بين عامَي 1976 و2014، وأن 70.8% من الأجسام الاستشارية والمجالس السياسية العليا في الوزارة حازت على تمثيل قوي من المجلس، وهذا من المؤشرات الدالة على أن لا نظير للمجلس في التأثير على السياسات الخارجية الأميركية.
سياسة الباب الدوّار لا تتوقف بين مجلس العلاقات الخارجية والمناصب الحكومية، فهناك أبواب دوّارة بين المجلس ومراكز التفكير الأخرى، ومنها ما هو ليبرالي مالي معولم مقرّب منها يموّلها أو تموّله، مثل كارنيغي أو مجموعة الأزمات الدولية أو مؤسسة المجتمع المنفتح (عدد المجالس والمؤسسات والمنظمات المتفرعة من المجلس والتي يديرها رجاله غير قابل للحصر). ومنها ما يمثّل مراكز قوى اقتصادية أخرى مثل مؤسسة راند التي تمثل المجمع الصناعي العسكري، خصوصاً المتعلق بسلاح الجو، أو مركز الدراسات الإستراتيجية الذي يمثّل مصالح المجمّع الصناعي العسكري والأمني عموماً، أو المجلس الأطلسي الذي يمثّل حلف الأطلسي. كما يمتد الأمر إلى مراكز التفكير اليمينية، وإن بتواتر أضعف، مثل معهدَي أسبن وهيريتيج. وهناك أيضاً معهد كوينسي (تأسّس عام 2019) الداعي إلى مزيد من الانضباط في السياسة الخارجية الأميركية وإعطاء الأولوية للقوة الناعمة في إنفاذ المصالح الأميركية في الخارج. وأكثر ما يلفت هنا هو أن الأخير يجمع كل الحلفاء والشركاء التقليديين لمجلس العلاقات الخارجية وألدّ أعدائه من اليمين المحافظ.
يتسلّل مجلس العلاقات الخارجية عبر الباب الدوّار إلى مراكز تفكير أوروبية أيضاً. ولا يتوقف الأمر هنا. فللمجلس باب دوّار مع عدد لا يُحصى من الشركات والأعمال والمؤسسات الإعلامية الكبرى والجامعات والمنظمات غير الحكومية، إضافة إلى تغلغله في حكومات أغلبها في فلك الولايات المتحدة عبر عضوية السياسيين ورؤوس الدول في أجسام متفرعة من المجلس، منها مجموعة بيلدربيرغ والهيئة الثلاثية ومجلس المجالس، ومنتدى دافوس.


المصالح الدائرية: اقتصاد بلا فتات
لطالما روّج دعاة الاقتصاد الحر ومنظّروه بأن حرية الاقتصاد المتفلّت من أي رقابة ودور اجتماعي للدولة ستعود بالنفع على الفقراء عبر سقوط الفتات إلى الأسفل.
هذه الأوليغارشية التي يمثّلها المجلس كالجراد، لا تكتفي برسم السياسات التي تخدم مصالحها الاقتصادية - وهي بطريقها تدمر المجتمعات - من خلال تعيين رجالها في المناصب الحرجة في الإدارة الأميركية. بل يقوم هؤلاء بخدمة الأوليغارشية حتى بعد خروجهم من الخدمة الحكومية. مثالٌ عن هؤلاء تيموثي غيثنر، وزير الخزانة في عهد باراك أوباما. خلال توليه المنصب كانت غالبية اتصالات الرجل الهاتفية مع رجال المجلس، خصوصاً رؤساء المؤسسات المالية منهم، وعلى رأس هؤلاء لاري فينك رئيس الشركة الأضخم في العالم بلاكروك (وفينك من مدراء مجلس العلاقات الخارجية السابقين). هنا لا بد الإشارة إلى أن صعود بلاكروك الصاروخي جاء بعد أزمة 2008 والتي أدارت شركته خلالها حزم الدعم الحكومية التي أنقذت المصارف (التي ينتمي أغلبها إلى المجلس أيضاً ونهبت منازل ومدّخرات المواطنين البسطاء). وبعد خروجه من منصبه، وخلال 3 أشهر فقط، قدّم عن طريق المجلس 3 محاضرات لثلاث من المؤسسات المالية الرئيسية في المجلس حول سياسة الاحتياطي الفيدرالي والمخاطر الجيوسياسية، وتقاضى لقاء هذه الساعات القليلة 400 ألف دولار!
هنا تبرز فائدة أخرى أكثر حساسية لسياسة الباب الدوّار، وهي احتكاره لكمّ هائل من المعلومات الحساسة حول السياسات الاقتصادية والدولية المؤثّرة على عالم الأعمال، وهي من الخدمات التي يقدمها المجلس لأعضائه إلى جانب الدراسات الإستراتيجية لكيفية توسيع أعمالهم عالمياً. وفي هذا السياق يبرز نوع آخر من المؤسسات الاستشارية المالية الدولية التي يديرها أعضاء بارزون سابقون من قبيلة الباب الدوّار، منها مؤسسات لأولبرايت وكيسنجر ورايس وكوهين. تقدّم هذه المؤسسات خبرات أسمائها اللامعة في عالم السياسة الخارجية لمساعدة الشركات العابرة للحدود في تخطّي قوانين وحكومات الدول التي تريد اختراقها، بلغة مواربة ولكن واضحة الدلالة في آن. وتروّج هذه المؤسسات لخدماتها بأنها ستساعد العملاء على تخطي سيادة الدول وخرق القانون، إما عن طريق الفساد أو العلاقات الشخصية وغيرها من الأعمال المشينة التي لا تليق بالرجل الأبيض، إذ إنه يقوم بها تحت مسميات أخرى (Lobbying, networking, leveraging…). وهنا من المهم التنويه بأن الطاقم الرئيسيّ في هذه المؤسسات بالإضافة إلى الزبائن الكبار هم أيضاً من أعضاء المجلس.
ختاماً وعودة إلى مسألة الفتات، من الجدير بالذكر أن الأجيال السابقة من حاكمية المجلس على رذالة أعمالها، كانت تمثّل المصارف وهي طبعاً تقوم على الإقراض للنهب، ولكنها قياساً بالجيل الجديد من النخبة المالية المتمثّلة بشركات التحوّط تبدو مفرطة الرحمة، فنسور التحوّط لا تربح إلا بالرهان على رؤيتك ذبيحاً.