مع تعاظم فصول الحرب الوحشية على غزة تتواصل فصول الحرص الغربي، الكاذب، على لبنان. وهو ما يواصل قادة هذا الغرب ورسله التعبير عنه، سواء بالتصريحات المهدّدة أو الاتصالات المنذرة أو الرسائل المتوعّدة أو الوفود المزمجرة. آخر هذه الاتصالات والرسائل جاء عبر وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، وقبله «تهديد» مباشر من وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك. والمضمون العام لهذه الرسائل والاتصالات «ينصح» بوجوب تجنّب «الحسابات الخاطئة». مع ذلك، الواضح أن كل ذلك لم ولن يحقّق أياً من أهدافه لا القريبة ولا البعيدة. بل يمكن التأكيد أنه لا يمكن للرسائل، مهما تعاظمت، أو للوفود، مهما كبرت أو ارتفع مستواها التمثيلي، أن تحقّق أياً من غاياتها الإسرائيلية التي لا لبس فيها. فالمعنى المراد والهدف المقصود من كل هذا الصخب الغربي يصبّان، حصراً، وبلا أي مواربة، في المصلحة الإسرائيلية المباشرة. ففي ظل تولي الغرب المكشوف لقيادة الحرب والإشراف على خططها، وهو ما لم يعد يخشى من المجاهرة به، يكشف التدقيق الأولي في طبيعة هذا الحرص وأهدافه، أن الخشية التي تقضّ مضاجع هذا الغرب وقادته هي في الواقع، وأولاً وأخيراً، خشية على إسرائيل، وعلى ما يمكن أن يصيبها أو يطاولها. بل إنه، في العمق، محاولة إضافية من المحاولات الجاري العمل عليها لتجنيبها الأهوال التي لا شك في محورية نتائجها إن واصلت المقاومة اللبنانية تصدّيها الجاري لمهمة حماية لبنان والدفاع عنه مع ما يفرضه هذا الدفاع من مشاركة عضوية وثابتة، لم تهن يوماً، في الدفاع عن غزة وسائر الأرض الفلسطينية المحتلة. بل إن دعوة البعض من مسؤولي الغرب إلى النظر إلى البربرية الإسرائيلية الجارية فصولها في غزة والاعتبار منها يكشف حقيقة هذه الأهداف ويفضح مراميها، خصوصاً أن هذه البربرية وفظائعها التي يجري توظيفها بصفاقة في الاتصالات والرسائل وزيارات الوفود، هي في العمق نموذج من نماذج البربرية الغربية التي خبرت شعوبنا العربية صورها في سوريا والعراق... ولأن الأمر، بالنسبة إلى المقاومة، بهذا الوضوح، لا يمكن لهذه الاتصالات أو الرسائل مهما بلغته من حدّة أن تنال من القرار الثوري اللبناني بالمشاركة الكاملة والحاسمة ووفق ما تمليه الخطط وتتطلبه المعركة، بعيداً عن الأفخاخ الإسرائيلية التي تطوّع لنصبها أحدهم من خلال مطالبته الخبيثة والمسمومة للمقاومة بالمزيد، مع علمه ومعرفته بعمق المشاركة وحجمها اللذيْن يصعب وصفهما.وإلى حرص الغرب المزعوم واهتمام قادته، ثمّة حرص آخر لا يقلّ خبثاً ورياء، وهو هنا حرص معادل له ولو أنه، في الواقع، أكثر ابتذالاً وأشدّ ركاكة. فحرص واهتمام بعض «الكتبة» اللبنانيين من الذين تخصّصوا في ديوان هذا الأمير أو ذاك الشيخ مدحاً أو ممالأة أو غضّ نظر... وارتضوا احتراف المهانة وامتهان الخضوع يكادان أن يضاهيا ما هو معروف في الروايات عن «ثقافة البلاط» والدواوين السلطانية التي سادت في عصور التأخر والفوات المعروفة. فهؤلاء في ما يخطّون أو يكتبون أو ينادون به يؤكّدون حقيقتَهم المعروفة والتي لا تتجاوز أنهم، في الواقع والحقيقة، ليسوا أكثر من وشاة ارتأوا توظيف بؤسهم الأخلاقي وإفلاسهم الوطني والقومي والإنساني في ما يدرّ عليهم من عوائد آنية: ريالات قذرة ودنانير أقذر...
ففي جديد لا جديد فيه، أطلّ علينا من أطلّ من أصحاب «الجملة المهزومة». والجملة المهزومة هي لمن لا يعرف أو فاته أن يعرف، هي الامتداد العضوي الذي لا لبس فيه لما سُمي ذات يوم بـ «الجملة الثورية». وهي «الجملة» التي أريد منها الوقوف على حال الزعيق «الثوري» الفارغ الذي واكب، بل ومهّد للهجوم الغربي الضاري على الأمة وعلى مشروعها العربي الكبير الذي قادته الناصرية ممثّلة برمزها جمال عبد الناصر. الجملة الثورية السيئة الذكر هذه، أخذت على عاتقها يومها مهمة التسديد على كامل المشروع بإيجابياته الكثيرة وسلبياته غير القليلة، وقصفه بأنواع رثّة ورديئة من المزايدات الثورية اللفظية التي كان أغلبها قد استورد للتوّ من مصانع الكذب والفبركة الأميركية بعد مرورها بمواخير شيوخ النفط وأمرائه، والتي أريد منها إحراج عبد الناصر من خلال حضّه على المغامرة ودفعه إليها... وهو ما تسبب بضغوط شعبية وسياسية وإعلامية لم تلبث، للأسف، أن أوقعت به.
وإلى جملة الأمس الثورية تحضر اليوم الجملة المهزومة. فلا أسهل، ولا أخبث من الحديث عن القوة الإسرائيلية والنظر إليها بوصفها نوعاً من أنواع القدر الذي لا يمكن ردّه، واعتبارها وكأنها المقرّر الوحيد لحركة الفصول والأقمار والكواكب... وهو جوهر الفكرة التي طالعنا بها، قبل أيام، أحد الجهابذة من أصحاب الباع والمراس في ابتكار التوهين واختراع الضعف وابتداع العجز والتركيز عليه. بل وتقديم الفكرة المسمومة بأقذر مما يمكن أن يأتي به حتى كُتاب العدو أنفسهم، غافلاً عن حقيقة أن التسويق لهكذا أطروحات بات عملة قديمة طواها الزمن، وأنه في ما يخطّه من أوهام، إنما يضع نفسه، عن وعي أو عن جهل، في خانة لا تليق بمن يملك ما يملكه من مواهب وقدرات. فالقوة الإسرائيلية العاتية التي لا يمكن هزيمتها، ولا حتى محاولة مواجهتها، هي في العمق خرافة من الخرافات التي سادت، والتي أريد من جعلها تسود عبر عمليات غسل وعي وشراء ضمائر وتقديم خدمات استخبارية مجانية ورخيصة و... التبرير للالتحاق والذيلية و... خيانة الأمة. وهي أولاً وأخيراً من خرافات المهزومين أو الدائرين في فلكهم من أصحاب الرواتب الكبيرة والنفوس الصغيرة، والتي تكاد مهمتها تنحصر في ابتداع الأعذار وتوسّلها، لتبرير حال التقاعس إن لم يكن الخيانة المباشرة على نحو ما ذهب إليه غير «مثقف» من مثقّفي العرب من أمثال فؤاد عجمي وكنعان مكية... أو كبير الخونة أنور السادات الذي صدّق وروّج لأكذوبة القوة الأميركية المطلقة من خلال عبارته التافهة عن امتلاك الولايات المتحدة لكامل أوراق الحل في المنطقة لتبرير خيانته التاريخية.
صحيح أن القوة الإسرائيلية كبيرة جداً، بل أكبر مما يُفترض، لكنّ التركيز عليها وحدها، واعتبارها المعيار الذي تقاس الأمور به هما ضربان من المبالغة والتضخيم اللذيْن لا صلة لهما بالواقع. فالكيان هذا وبالرغم مما يملكه، وما يملكه لا يستهان به، سقط في معظم الامتحانات الجدية وليس آخرها ما جرى يوم ٧ تشرين. لكنّ المراد الحقيقي من تعظيم القوة والتخويف منها تبرير التخاذل والتقاعس والتخلي والتشريع للقبول بواقع الاحتلال والعيش معه، وتوظيف كل ذلك كأرضية للتطبيع والالتحاق الذي يقوده غلام ما يُسمى بالسعودية، وهو التطبيع الذي أصابته رصاصات المقاومين وصواريخهم بمقتل يُرجح أن لا حياة له من بعدها.
إن مشاركة المقاومة اللبنانية في واجبها في الدفاع عن لبنان من خلال الدفاع عن غزة وفلسطين مهمة مقدّسة، وهي تأكيد على دورها العربي وانتمائها العضوي إلى معسكر الحرية الحقيقي. وكل قول آخر هدفه تثبيط الهمم وزرع الشكوك وهو ما يجب التصدي الحازم له في ظل الحرب الجارية على المنطقة لتحقيق ما فشل سابقاً من مشاريع ومن مخطّطات.
وهنا من الضروري، ومن واجب المعنيين، ونحن منهم حتماً، لفت الأنظار القصيرة وأصحابها إلى أن المواجهة المفتوحة مع هذا العدو الغاشم، لا يمكن أن يحكمها الانفعال ولا الطيش ولا الصبيانية ولا المغامرة على نحو ما تدعو إليه بعض الأصوات ذات الامتداد الإسرائيلي الذي لا لبس فيه، وإن احتمت بفيء «الدوحة» الخليجية أو تلفّعت بزي المقاومة أو تبرقعت به.
إن قيمة المقاومة اللبنانية وأهميتها والإضافة التي تُحسب لها أنها، خلافاً للتجارب الماضية، نجحت في عقلنة المواجهة، وأدخلت في حساباتها الكثير مما لا تدركه العقول الصغيرة، أو النفوس المهزومة: المسؤولية الوطنية والقومية، الأوضاع الإقليمية والدولية، موازين القوى وحجم الأكلاف والآثار الناجمة عن كل فعل ولو كان صغيراً...