لم أكن أنتظر هذه اللحظة لأَرثوك، فأنت أبلغ مني لغةً وتعبيراً، ولا هذا الحزن كي أبكي ملء عينَيَّ، فكثيراً ما كنت أبكي في عينيك وتبكي في عينَيَّ، ولا هذا الموت كي أنحني، فأنا كنت أكبر فيك وأغتني بصداقتك وآنس برفقتك وأسعد برؤيتك وسماع آرائك.لم أكن أدري أنّي سأكون ضعيفاً أكثر مما أنا عليه الآن مع رحيلك، يتيماً بعدك، وحيداً من دون سلام يدك وصوتك، جليساً من دون جلستك، متفتّح الذهن بغياب النقاش معك، منشرحاً من دون بسمتك الساخرة.
صديقي طلال، لقد أغرقني رحيلك في غمرة الحزن، وأشعرني فقْدُك بأنّي خسرت نصف حياة، نصف أوقاتي الجميلة، وكل جلسات التفكر معاً في شؤون السياسة والمجتمع والدنيا.
أيها الصديق الأقرب إلى القلب، المناضل الأقرب إلى الروح، السياسي الذي لا يهادن، الصحافي الذي يعرف كيف يحصل على المعلومة وكيف يخرجها في الصحيفة بذكاء نادر، صاحب القلم الذهبي الذي أحبّه عدد كبير من قراء لبنان والأمة العربية، وكانوا ينتظرونه صباح كل يوم، يعشقون ما يكتب، ويتفاعلون مع عصارة أفكاره، ويتعلمون من مقالاته كيف يمكن أن نُلبس السياسة مشاعر ونسخّر الأدب للسياسة.


لم يكن طلال سلمان صحافياً أو كاتباً سياسياً عابراً، إنما كان مناضلاً راسخاً، يعمل في السر والعلن، في النهار والمساء، من أجل إحداث تغيير في المجتمعين اللبناني والعربي، يغلّب الحق على الباطل، المظلوم على الظالم، المقهور على القاهر، اللاجئ على المحتل... كان مهموماً بحقوق الناس في لبنان، نراه دائماً في مقدّمة الداعين إلى تقدّم المجتمعات، وأول الساعين لتعزيز الحركة المطلبية في لبنان، بالكلمة، وبكشف الحقائق، والمساهمة في تكوين الوعي الكافي لإحداث تغيير إيجابي، مقدّماً كل إمكانات صحيفته «السفير»، لتكون عوناً لأصحاب الحق. وهو كان، بحق، مايسترو الأفكار التي كانت تبثّها «السفير» عبر صفحاتها الواسعة، تاركاً للكتّاب أن يبدعوا في تجسيدها، وللقراء أن يستنيروا بها ويتحاوروا معها.
لم تكن «السفير» مجرد مشروع تجاري يبغي الربح، إنما كانت متراساً يقف طلال سلمان خلفه ليصوّب مسار الصحافة قبل أي شيء آخر، ويحدد وجهة الأفكار التي تتبنّاها الصحف، ويقف فاعلاً لا منفعلاً، قائداً في مسيرته لا تابعاً، حاشداً الطاقات حول أفكاره، لا عسكرياً يأتمر بقرار الأعلى رتبةً منه، فهو لم يعترف يوماً بالرتب الأعلى، ولا أذعن للرؤساء والوزراء والقيادات الرسمية، حتى لو أودى به الأمر مرة إلى السجن، ومرات إلى محاولة اغتيال. وكثيراً ما تعرّض للتضييق المادي والتهديد الجسدي، لكنّ صاحب القلم الذي لم ينكسر، بقي صامداً على أفكاره ووطنيته الصادقة، من دون أن ينتمي إلى حزب أو تيار سياسي، فكانت جريدته ساحة النضال التي ارتضاها له منذ البداية، وتجسّدت فيها قناعاته منذ التأسيس.
بقي طلال سلمان أميناً لعروبته حتى آخر أيامه، وجهته فلسطين، كل فلسطين، يقاوم من أجلها، ويحتضن كل مقاومة تدافع عن شعبها، وتعمل لاستعادة الأرض من محتل مجرم لا يرحم، ويدفع من أجل احتضان تلك المقاومة الغالي والثمين. كانت فلسطين هي الشريان الرئيسي في حياة جريدته، وقد بقي «حنظلة» رفيق دربها سنين طويلة، وبقيت هي «صوت الذين لا صوت لهم» في كل العالم العربي.
بقي أميناً للعروبة التي لا بديل منها، العروبة التي تخلّى عنها الكثير من العرب، والكثير من الزعماء، ليحفظوا مصالحهم الخاصة، ويصونوا كراسيهم المذهّبة. أما الذين بقوا أوفياء للقضية فكان صديقهم، ومن هنا كانت صداقتنا المشتركة مع الرئيس سليم الحص متينة ومستمرة حتى الرمق الأخير.
بقي صديقنا الكبير، والحبيب، ورفيق الدرب وأعزّ الأصدقاء، طلال سلمان، صامداً على عروبته حتى النفس الأخير، عروبة الأمل والوحدة، عروبة التقدّم والتحديث والنهضة والوعي والتجديد، العروبة المقاتلة الغاضبة، التي تصرّ على استعادة الحق من مغتصبه، واستعادة الأوطان من المستبدّين بها.
لم يكن طلال سلمان من الذين يقولون كلمتهم ويمشون، إنما من المثابرين والمتابعين لمفاعيل الكلمة، وكثيراً ما يحوّل كلماته إلى جيش يحمي به كل مظلوم، ويساند كل صاحب مشروع إنساني، ويفتح صفحات جريدته للمناضلين والمفكّرين العرب، وكل مؤسسة تعمل لمصلحة المقهورين والبؤساء. ومن هذا المنطلق كانت مؤسستنا، «مؤسسة عامل الدولية»، منذ تأسيسها، تحظى باهتمام طلال سلمان ودعمه، فيفسح صفحاته لمواكبة أنشطتها بقناعة تامة، وكثيراً ما تبنّى توجهات المؤسسة، وساهم في نقاش خططها، وأضاء بأفكاره طريقها، وساهم في حل مشكلاتها، من منطلق الصداقة المتينة التي نشأت بيني وبينه، والأخوّة التي لم يستطع فصم عراها أحد، واللقاءات المكثّفة التي تخطّت العلاقات الوطنية والاجتماعية إلى العلاقة الشخصية المتينة التي استمرّت سنينَ، وستبقى ويبقى طلال سلمان في القلب حياً نابضاً ببسمته وروح النكتة فيه وطيب ملقاه والحزن المختمر في عينيه.
أكتب عنك اليوم بخجل، فأنت أستاذنا في الكتابة. كلما كتبت سطراً عنك سبقني الدمع إليك. السلام إلى ضوء روحك، إلى النور الذي تركته في عقول قرّائك. وكلنا سائرون «على الطريق» التي رسمتها جيلاً بعد جيل.