إشكاليات الغياب وتعقيداته من إشكاليات الحضور ومشكلاته. والقول بتناقضهما فحسب ينطوي على تبسيط مخلٍّ، من شأن الاكتفاء به أن يفاقم الإشكاليات ولا يحلّها. علاقة الأول بالثاني كالعلاقة بين وجهَي العملة الواحدة. فترافقهما المستتر هو الأساس الذي ينبغي التوقف عنده أو الانطلاق منه. ففي بعض الغياب حضور، وفي بعض الحضور غياب. وكما أن الغياب، في بعض الحالات، لا يعني الموت، فإن الحضور أيضاً، وخصوصاً الصاخب منه، لا يدلّ على الحياة. والأرجح أنها واحدة من المعضلات التي لا حلول حاسمة لها.فكم من غائب حاضر، وكم من حاضر ميت. وعليه، فقد يحصل الغياب ولا يحصل الموت. وقد يحصل الموت ويمتنع الغياب. وطلال سلمان، في غيابه الموجع اليوم، مثال عن الموت الصعب وتأكيد على تعذّره. فالرجل صاحب أثر. والأثر هذا مقيم وعابر. ولأنه كذلك، لا يمحى ببساطة ولا يزول بسهولة.
ومن علامات هذا الأثر وعناوينه، تحضر «السفير» كتجربة سياسية وثقافية ومهنية رائدة. تجربة غنية عبّرت عن بعض معاني زمنها الناصري الناهض بالأفكار والعابق بالهمم والأحلام والتطلّعات. فكانت المثل والمثال في دفاعها عن قضايا الأمة واحتضانها لخيار المقاومة وتصدّيها للاستعمار ولأدواته الرثّة التي مثّلتها قوى الرجعية العربية. والأرجح أن هذه التجربة الفريدة ما كانت لتقوم، ولا كانت لتنجح لولا مواصفات صانعها ومهندس رحلتها طلال سلمان. فكان أن ارتبط بها وارتبطت به حتى صارا واحداً. فالصانع المجتهد صار صنيعة الفكرة. والصنيعة أمست جزءاً عضوياً من الصانع. ومعهما صُنعت حكاية كبيرة عبرت الحدود وتجاوزت السدود، حكاية كتب حروفها مناضلون ومناضلات تعاقبوا على مدّها بالذخيرة المعرفية والنضالية والثقافية والمهنية طوال عقود أربعة حافلة. فعندما يذكر طلال سلمان، تحضر «السفير» ومعها كوكبة من الأسماء التي يصعب أن تتكرر والتي ربما كان يصعب أن تجتمع لولاه، كما يتعذّر أن تلتقي إلا حوله ومعه. وأول هذه الأسماء وأبرزها جوزف سماحة، بسعة عقله وواسع معرفته وصلابة التزامه الوطني والقومي، وبلال الحسن، وناجي العلي ومحيي الدين اللباد وحازم صاغية وجهاد الزين وإلياس خوري وعباس بيضون ومصطفى الحسيني... فضلاً عن كوكبة الجنود المجهولين الذين تقدّمهم ياسر نعمة بإخلاصه وتفانيه وحسن إدارته، فضلاً عن كثيرين... وهذا هو أثر طلال سلمان الذي يصعب أن يمحى ويتعذّر أن يزول. ففي قدرته على الجمع، أتاح لصوت العروبة التي حمل لواءها أن يعلو وأن يصدح في كامل الخريطة العربية.
طلال سلمان، وبحقّ لا مبالغة فيه، أحد أعلام الصحافة العربية. وبرحيله تخسر المهنة صحافياً مناضلاً عاصر الأحداث ورافق الوقائع وتجاوز تقلّباتها محافظاً على جوهر الفكرة التي حفّزته على المغامرة الجميلة التي خاضها من ألِف المهنة إلى يائها رئيساً لتحرير «السفير»، قبل أن يقرر، في غفلة عن الجميع، الانسحاب من المشهد العام، تاركاً للقلق المهني ولأسئلته أن تتوالد وتتوالد.
العزاء للصديقة هنادي وللأعزاء: أحمد وربيعة وعلي. والمواساة لفؤاد اللبان الذي أخلص لـ«الأستاذ» ما وسعه الإخلاص، ولديانا قوصان التي أدارت يوميات «الأستاذ» بحنكة تركت أثرها تنظيماً وتدبيراً... ولكثر غيرهم فازوا بفرصة المرور بحياة مناضل عربي حمل اسم طلال سلمان.