في أحد أزقّة منطقة رأس بيروت يلعب عدد من الأطفال بشكل شبه يومي بالكلّة. نَقْف الكلّة مشهد غاب عن أرصفة المدينة منذ فترة، أو على الأقل عن أرصفة الشوارع التي أرتادها، وإن يمكنني أن أدّعي بثقة كبيرة أنّني لا أدع شارعاً وزقاقاً في المدينة يعتب عليّ. إذ أزورها كلها إما مشياً أو على دراجتي الهوائية.تعتبر الكلّة ونَقْفها من ألعاب الصِّبْية التقليدية في بلادنا لدرجة أن الإبهام بات يعرف بـ«نقّاف الكلّة» في التراث الشعبي. يُبرَّر للصبية لعبهم دائماً ولو في الوحل، ويتربون على هذه التبريرات، وغالباً يكملون لعبهم على كبر حتى لو أصبحت الألعاب مدمّرة ومؤذية وحتى قاتلة. فمفهوم أن الصبية سيتصرّفون كالصبية (Boys will be boys) عابر للقارات والثقافات، ولدينا أمثلة على الألعاب الصبيانية على كافة المستويات وصولاً إلى الصبية المتحكمين بالبيت الأبيض. التبرير للتصرّفات الصبيانية سمح بخلق ظواهر كالمتحرّش الأشهر في هوليوود هارفي واينستين، وقوّاد الحكّام «المنتحر» جيفري إبستين الذي نشرت صحيفة «تليغراف» اللندنية قبل أيام أن والدة أحد زبائنه المتهمين باغتصاب قاصرات تنفق ملايين الجنيهات الاسترلينية، والتي تحمل صورتها بالمناسبة، أتعاباً للمحامين كي يبرّروا فعلة ابنها أندرو دوق يورك.
في عام 2010 اختارت منظمة «فيفا» المحتكرة للرياضة الأكثر انتشاراً في العالم قطر لاستضافة مونديال كرة القدم عام 2022، في عملية شابها الكثير من الرشاوى وشراء الأصوات، والتي اعتبرت عملية فاضحة حتى بمعايير «فيفا» الفاسدة جداً، ما اضطر الكارتيل إلى معاقبة بعض أفراده. المونديال طبعاً هو من أهم الاستعراضات الرياضية في العالم، وتعتبر استضافته برستيجاً وإن أزهق أرواح آلاف عمال البناء الذين أُتي بهم لبناء الملاعب والمدرّجات في صيف الصحراء. نقلت «فيفا» مونديال 2022 إلى أواخر الخريف بدلاً من شهر حزيران المعتاد لهذا الحدث من أجل حماية اللاعبين والمشجعين من الحرارة القاتلة، لكن ما ينطبق على ميسي ونيمار والأغنياء الذين يمكنهم إنفاق آلاف الدولارات لمشاهدة مباراة مونديالية، لا ينطبق على عامل البناء القادم من بلاد لا تهمها كرة القدم أصلاً، إذ إن تركة الاستعمار فيها كانت لعبة الكريكت. لم يهن على حاكم دبي رؤية فرح حاكم قطر بلعبته، فقام بتعويض ما رآه نقصاً باقتناص المسمّى المعرض العالمي Expo 2020 في العام التالي، وباتت له أيضاً لعبة عالمية ليلهو بها. شهد الأسبوع الفائت افتتاح هذا المعرض الذي يدوم لستة أشهر بحفل ضخم قد تظنه عرساً لأحد أولاد ساسة لبنان، إذ إن الحدث عالمي ويستحق الإسراف، فكيف للدول في يومنا هذا أن تتعارف وتتبادل الثقافات والخبرات والتجارة إن لم تجتمع في مكان واحد؟
حين أطلق مفهوم المعرض العالمي، في عصر ما قبل «علي بابا» و«أمازون»، كان الغرض منه أن تعرض الدول صناعاتها لتبيعها. انتفت تلك الوظيفة مع الوقت، والحدث الذي كان ضرورة اقتصادية سنوياً أضحى استعراضاً ثانوياً تتبارى على استضافته مرة كل خمس سنوات مدن على هامش الاقتصاد العالمي. فدبي هزمت كلاً من إزمير التركية ويكاتيرينبرغ الروسية في الجولات الأخيرة من التصويت على حق استضافة هذا المعرض وأعبائه، ما يعكس مدى اهتمام العالم بهذا المعرض في القرن الحادي والعشرين. صِبْية السلاطين يريدون أن يلهوا بألعاب عالمية، فلندعهم يستمتعون. لكن المشكلة هي في تمجيد لعب الصبية على أنه إنجاز عظيم متجاهلين الآلاف من ضحاياهم، من شهداء لقمة العيش إلى ضحايا حروبهم النزوية وحتى بناتهم المحتجزات. هنا يلعب المتملقون والمستفيدون من الصِبْية دور ملكة بريطانيا في حماية دوقها الذي يستحق أشدّ العقاب، فتختفي النسوية وحقوق العمال وخطاب الحريات، وتستبدل بالمديح واللعق. الطريف في «إكسبو دبي» هو أن أحد العناوين الرئيسية للمعرض هو مفهوم الاستدامة والانسجام مع الطبيعة، وذلك في مدينة قررت أن تكسو أبراجها بالزجاج على رغم أنها محاطة بالرمال من كل صوب، أي استدامة تلك التي تحتاج جيوشاً من مغاوير منظفي الزجاج لتبقي على بريقها؟
يعتبر برج باريس الصدئ من أشهر مخلّفات المعرض العالمي عبر التاريخ، ويصادف أن العاصمة الفرنسية هي مقرّ المنظمة المشرفة على المعارض العالمية والمسماة بإبداع منقطع النظير: المكتب الدولي للمعارض. انسحبت في السنوات العشر الماضية كل من كندا وأستراليا من «فيفا» المعارض لأنها اعتبرت أن الاشتراك فيها هدر للمال غير مبرّر. ونتكلّم هنا عن مبلغ زهيد هو 25 ألف دولار، أو ما يعادل كلفة طاولة VIP في نوادي بيروت الليلية أيام العز. يومها كانت سطوح بيروت الفخمة مشرّعة ليلهو فيها صبية سلالات النفط والغاز، وكانت الأضواء مسلّطة على المعالم السياحية التي حملت أسماء بار السماء وقزحية العين (كانت أسماؤها بلغات أجنبية لأنها أرقى) لصرف الأنظار عن معالم الانهيار المقبل، فالضوء والنظر متلازمان.
اليوم انقطع عنّا الضوء وبعد غروب الشمس يغيب «نقّافو الكلّة» عن الأرصفة وتصبح شوارع المدينة «مخيفة» بحسب ما يصفها كثيرون مؤخراً. لكن كثرة الأنوار تبهر وتعمي البصر، وأحياناً تحتاج العين للعتمة ليتّسع بؤبؤها ويزيح قزحيتها الملوّنة فتبصر الحقيقة كما هي. الملايين التي أنفقت على الأنوار الساطعة في «إكسبو دبي 2020»، والتي ستبهر العالم في مونديال قطر 2022، لم تُنتَج بل استخرجت من الأرض. من الأرض نفسها استخرجت المليارات التي موّلت حروباً في العراق وسوريا وليبيا واليمن لأن الصبية يريدون أن يلعبوا بمصائر شعوب المنطقة. صبية محظيون لا يرون احتلالاً في فلسطين، بل شريك يحمي ألعابهم، ثم يهذون عن سلام في فوهة بركان. قد يُعمى البعض أو يتعامى من كثرة الضوء، لكن في عتمة بيروت الأمور جليّة، لن تترك شعوبنا مصيرها رهن نزوات صبية «سلاطين الفول والزيت»، كما أسماهم الفاجومي أحمد فؤاد نجم، وحتماً لن تترك فلسطين.