حين وقعت حادثة قبرشمون، في تموز الفائت، على خلفية كلام رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في جولته في الجبل، تمكن رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من تحويل الحادثة من صراع سياسي ــــ أمني داخلي الى قضية «دولية». ورغم أن الشابين اللذين ذهبا ضحية الحادثة لا ينتميان الى معسكره السياسي، إلا أنه نجح في استثمار حملته المضادة ضد من يحاولون عزله. تدخل الأميركيون والبريطانيون والفرنسيون محذّرين من قرارات رئاسية سعت الى تطويقه. لم يكفِ جنبلاط ذلك، بل جرى استقبال رسمي له في القصر الرئاسي الصيفي في بيت الدين، واستقبله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الباحة الخارجية، وأقيم له غداء عائلي.بعد خمسة أشهر، يعود المشهد نفسه. صحيح أن الراحل علاء أبو فخر الذي سقط في خلدة هو أحد أركان الحركة الشعبية، لكنه كان ناشطاً في الحزب الذي حضر نجل رئيسه النائب تيمور جنبلاط المأتم. انعكاس المأتم، وقبله ما حصل في ساحة الشهداء، على التحرك الشعبي يماثل بقوته الانعكاس السياسي على حركة جنبلاط، بعدما بادر عون للمرة الثانية في اتجاهه معزياً.
حجم المأساة الإنسانية في قتل أبو فخر لا يقلّل من أن جنبلاط يعرف كيف يحوّل أي استهداف ــــ مقصوداً كان أو غير مقصود ــــ الى حدث «أممي». وكلما زادت حدة تطويقه، وسّع «البيكار» في قراءته أي تطوّر محلي من زاوية سوريا واليمن والعراق وواشنطن وباريس. وهو نجح، هذه المرة أيضاً، في تحويل الانتفاضة الشعبية وما تخللها من قطع طرق في مناطق تدين بالولاء له، الى حدث جامع شارك فيه متظاهرون من كل ساحات التظاهر وغطّته وسائل إعلام عربية ودولية، وفي تأكيد مرجعيته ودوره في تشكيل الحكومة.
في اللحظة التي كانت تشتعل فيها الشويفات، كانت المناطق المسيحية تقدم مشهداً آخر، جاء تتويجاً لما شهدته في الأسابيع الثلاثة الماضية. ثمة مشكلة لا تريد الأحزاب المسيحية الاعتراف بها، وهي أن جمهوراً شبابياً نزل الى ساحات التظاهرات لا علاقة له بهذه الأحزاب التي تحصر نفسها بين زغرتا والمدفون وساحة ساسين وكفرشيما. قد يكون من المبكر الحديث عن حجم كبير لهذه الشريحة، سواء من جامعيين أو طلاب أو موظفين، خرجوا من عباءة حزبية خلال الأسابيع الماضية، الى مدى أوسع، وهو ما قد تظهره الانتخابات المقبلة. لكن هذه المشاركة التي انطلقت عفوية وعبّر عنها كثير من المتظاهرين الحقيقيين، عبر وسائلهم الخاصة والإعلامية، خطوة أولى وأساسية يمكن البناء عليها، ولا سيما أن شريحة كبرى من هؤلاء لا علاقة بها بتقوقع الحزب، ولا بالتسعينيات، ولا باصطفافات عام 2005، وهي متفلتة بسبب نشوئها أو انتمائها الى أجواء طلابية وجامعية أكثر تحرراً من القيود الطائفية والحزبية، وهؤلاء يعرفون شواطئ صور والناقورة وغابات عكار وأرز الباروك. وإلا كيف يفهم أن ينزل هؤلاء الى ساحتَي رياض الصلح والشهداء وطرابلس ويقصدون كفررمان لينضمّوا الى تظاهرات الشيوعيين ويغنّون أناشيد اليسار ويشاركون في مأتم في الشويفات؟
الأحزاب المسيحيّة لا تقدم نفسها كلاعب مؤثّر في القرار وتحصر همّها في مقارعة بعضها بعضاً


هذا المشهد لا يريح كثيراً الأحزاب التقليدية التي تسعى الى شكل من أشكال الصراع الفئوي التقليدي والممنهج، بتحويل التظاهرات إلى مناسبة حزبية بحت، وكأنها عشيّة الانتخابات البلدية أو النيابية، لاستعادة زخم جمهورها و«القبض» على من يتفلّت من إطارها، مستخدمة قطع طرق في جل الديب ونهر الكلب وإقفال كل المسارب على أبناء المنطقة في مناطق حساسة، واستخدام صورة البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير في أكثر حركة تشويهية لتاريخه، وردات الفعل المضادة من إطلاق نار وحملات إعلامية وردود سياسية ونيل بركة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي. وأثبت التمويل والتموين الخلفي وحشد الجمهور، الموالي للعهد والمعارض له، مرة أخرى أن هذه الأحزاب لم تخرج من إطارها الضيق، ولا تزال تقدم نفسها كلاعب غير مؤثر في القرار السياسي العام، بل تحصر همها في مقارعة بعضها بعضاً. من دون أي التباس، تصرّف التيار الوطني على أنه تيّار سياسي يقارع القوات انتخابياً وانتقامياً. وتعامل حزب القوات، مع الأرض وفي الحكومة، على أنه يتحيّن الفرصة للرد على التسوية الرئاسية والحكومية. فيما يحاول الكتائب الإفادة خلفياً من الفرصة، ويقف تيار المردة على تقاطع بين الموقف القلق والمتفرج. لكنّ ثمة خيطاً واحداً يربط هذه الأحزاب، وهو أنها خارج المعادلة الحقيقية. إذا كان حزب الله يحتاج الى التيار كحليف مسيحي، فإن هذا الحليف أعطى خلال ثلاثة أسابيع تأكيداً أنه لا يملك الشارع المسيحي، وحشد التيار لتظاهرته كان رسالة للحزب أكثر مما كان موجّهاً ضد المتظاهرين. والقوات والكتائب، وإن ساهما في قطع الطرق رغم نفيهما المتكرر، وجّها موقفهما ضد التيار وليس من أجل توسيع قاعدة حضورهما العام. ثمة مبالغة في تصوير أن الرئيس سعد الحريري سيقف على خاطر القوات في مشاوراته الحكومية. كما من المبالغة التصوير أن قرار التيار متفلّت من حلفه مع حزب الله. وبين السياسة والميدان، تحاول الأحزاب غضّ النظر عن المشهد السياسي الجامع، وتحاول الإمساك بكل تفاصيل الشارع المسيحي الذي يعنيها أولاً وآخراً، لأن التظاهرات الموجّهة ضد أركان السلطة القائمة تلامس في مفاصل كثيرة قوة هذه الأحزاب، وهنا مكمن عصبيّتها ومحاولتها الالتفاف عليها، استثماراً أو استهدافاً.