ليس أبشع وأقسى من أداء أهل السلطة عندنا، سوى تخلّيهم عن مسؤوليتهم في مواجهة الناس. وكان الأمل بردّة فعل عاقلة، مجرّد وهم زال في لحظات المساء. فليس بين أهل الحكم عندنا من يفكر في تغيير جدّي على أثر الهبّة الشعبية الكبيرة. وأكثر من ذلك، فإن العجز الذي يشلّ عقل وقلب أركان السلطة، استمر مانعاً لقيام هؤلاء بالتقدّم خطوة صوب الشارع الغاضب. وكل ما حصل منذ صباح أمس حتى آخر ليله، عكَس العقلية ذاتها، إذ يرفض أحد منهم تحمّل المسؤولية والاستعداد للمحاسبة. بل قام هؤلاء، كلٌّ من جانبه، برمي المسؤولية على غيره، مع وقاحة غير مسبوقة، بإعلان تفهّم وجع ثم التهديد بالنزول معنا إلى الشارع.المسؤولون قالوا لنا بالأمس، أن اذهبوا وبلّطوا البحر. ارفعوا من سقف اعتراضكم إلى أعلى ما تقدرون، وواصلوا احتجاجكم إلى حيث ترغبون، وزيدوا من تشهيركم وشتائمكم إلى حيث تقدرون... لكن لن تحصلوا منا على إقرار بالعجز والفشل. ولن نمنحكم فرصة محاسبتنا أو محاكمتنا أو معقابتنا على ما قمنا به.
ليس هذا فقط، بل يتصرف أهل الحكم بثقة كبيرة، على أن من نزل إلى الشارع هم أقلية موجوعة، لكنّ هناك خصوماً يتولّون تحريكهم لغايات سياسية.
وعندما يفكر الحاكم بهذه الطريقة، فهذا يعني أن علاج الأزمة عنده يتراوح، بين تكليف القوى الأمنية احتواء التحرك بعقلية أمنية، وبين تهديد الناس بالفوضى الشاملة إن هم أصرّوا على التغيير. ويستند قادة السلطة إلى أن لديهم قواعدهم القائمة على عصبيّات مذهبية وطائفية، وهي جاهزة للانقضاض على «المشاغبين» الذين خرجوا إلى الشوارع. وفوق كل ذلك، يهمس بعض حواريي الحاكمين، بأنه ما «إن يتوقف الصراخ حتى نحاسب كل من تعرّض لنا ولعائلاتنا ومنازلنا وكراماتنا»!
لكن الحريق إن توسّع، فسيكون أكثر شدّةً وحدّةً من حرائق الطبيعة قبل أيام. سوف لن يحتويه أحد. وسوف لن ينجو منه فريق أو طرف أو جمهور. وإذا كان بعضهم يتصرف أنه بمنأى عمّا يجري، فهو واهم. ليس لأن كل من دخل السلطة مسؤول، وإن بنسب متفاوتة عن الأزمة، بل لأن العاجز عن الإصلاح والتغيير، لا يجب أن يبقى شاهد زور، أو صامتاً عن سياسات يعرف الجميع أنها تقود إلى انهيار البلاد وانفجار الوضع. وعندما تحلّ الفوضى، لن يبقى شيء على حاله في المشهد الذي نعرفه اليوم. الاقتصاد المهتزّ سيسقط بضربة واحدة، وترافقه كل أنواع الانهيارات المالية والاجتماعية، وعندها لن ينفع لا تدبير أمني زجري، ولا حتى انقلاب عسكري ممنوع في بلد مثل لبنان. كما لن تنفع كل أنواع المناجاة، أو حتى تذكير الناس ببشاعة الحرب الأهلية الساخنة منها أو الباردة. وستكون الهجرة حيلة القادرين على الهرب، بينما لا يبقى للمقيمين، سوى شريعة الغاب لإدارة ما بقي من شؤونهم. وحروب الفوضى المتنقّلة، لها طَعم خاص في لبنان. طعم متنوع طائفياً ومذهبياً ومناطقياً وطبقياً. وإذا كان الفقراء هم عادة وقود الحروب الأهلية، فإن أول نخب سيرتفع من المتقاتلين، سيحصل في مكان تجتمع فيه جثث عليّة القوم الذين يصرون على سياساتهم الكارثية، إزاء كل أمور الحياة. فلا سلطةَ عاقلة ومتوازنة تقوم لتحمي الناس وحقوقهم، ولا قطاعَ خاصاً يتوقف عن النهب لساعات. ولا سماسرة الدين والطوائف والأمن يقبلون بيوم عطلة.
الوضع القائم في البلاد اليوم، لا يحتاج إلى توصيف أو تعليل أو شرح. بل يحتاج إلى قول واضح وصريح، بأننا أمام فرصة حقيقية، ونوعية لإطلاق مسار تغييري جدي في هذه البلاد. يهدف إلى جرف كل من تحكّم بنا باسم الطائفة والمذهب ومصالح الجماعة. ويهدف إلى قطع لسان كل من يريد العودة بنا إلى زمن مخاوف الأقليات واستبداد الأكثريات. لكن هذه الفرصة، لا تستقيم بالاحتجاج فقط.
بحثاً عن شخص يشبه سليم الحص في كونه يعرف أهمية الدولة وليس مرتهناً لقرار خارجي


اليوم، لا يحتاج عالم اجتماع، أو سياسي محترف، إلى أدلّة كثيرة على حجم الغضب الذي يسكن قلوب المتظاهرين وعقولهم. وإذا كان أداء السلطة في مواجهة حرائق الطبيعة قبل أيام، ثم الضريبة على تطبيقات الهواتف الذكية، شكّلا شرارة لحريق لا يزال في بدايته، فإن الكامن والمتراكم أكبر بكثير، ويمتد إلى ربع قرن فات، يوم قيل لنا إن الحرب الأهلية توقّفت ودخلنا حرب الإعمار.
لكن من يتحكّم به الغضب في الشارع اليوم، يحتاج إلى مساعدة غاضبين يملكون القدرة على التفكير بهدوء. لأن الحاجة ملحّة الآن إلى خطة تحرّك. ليس بهدف تنظيم الاحتجاج، والركون إلى سخافات الداعين إلى وقف أعمال الشغب، التي تبقى عنصراً رئيسياً في أي تحرك شعبي، وفي أي مكان في العالم. وإلى خطة عمل، لا تُلزم الغاضبين بانضباط على طريقة عمل الأحزاب. بل تضع تحركهم في سياق يُتيح رفع سقف المواجهة بطريقة تقود إلى نتائج مباشرة. سواء كان الهدف هو نسف النظام، أم تغيير السلطة وتحقيق إصلاحات جذرية. وحاجة الجمهور إلى هذه الخطة، له هدف مستعجل أيضاً، يتعلّق بمنع الطفيليين، من القوى والسياسيين والناشطين وغيرهم من أطراف إقليمية، يسعون منذ اللحظة الأولى لاندلاع الاحتجاجات، إلى استغلال الغضب لأجل تحقيق أهداف تندرج في سياق صراعات سياسية محلية وخارجية. وهو خطر جدّي، ويصبح أساسياً بمجرد أن يخرج وليد جنبلاط وسمير جعجع وبقايا 14 أزلام السعودية وأميركا، ويرفعوا شعارات الناس، وكأنهم خارج المسؤولية والمحاسبة.
قد يكون من المبكر الحديث عن قيادة لهذا الحراك، تضمن له استمراره وتمنع قمعه. لكن المشكلة التي تواجه المعترضين على سياسة الدولة، ترتبط بمكانة القوى والزعامات والقيادات المتطوّعة لهذا الفعل. وربما هذا ما يستدعي الاستفادة من دروس ما يجري حولنا. وأن ندرس تجربة تونس، بحثاً عن قيس سعيّد لبناني. بحثاً عن شخص، يشبه سليم الحص، في كونه يعرف أهمية الدولة، وليس مرتهناً لقرار خارجي، وله صوته المانع لحضور أباطرة الحروب والفساد…