سيصل الرئيس اليوم بعد جلسة الانتخاب إلى القصر، تحديداً إلى مدخل رقم ٣ حيث تقبع «البِركة». وستقام التشريفات. سيحيي الرئيس العلم، ثم ستبدأ الاحتفالات. التقطوا أنفاسكم: ٢١ طلقة مدفعية ابتهاجاً. ذلك رغم أن البرلمان أقر قانوناً قبل فترة قصيرة يجرّم اطلاق النار في الهواء. ولكنه الرئيس ولكنها التشريفات. و«عالبيعة» تزامناً مع طلقات المدفعية، ستطلق البواخر المتوقفة في مرفأ بيروت صفاراتها فرحاً. بعد ذلك، وفي طريقه إلى «صالون السفراء» ستؤدي كتيبة من الحرس الجمهوري عرضاً، ويمشي الرئيس بين فرقة من «الرماحة». وبينما كان مسؤول التواصل مع الإعلاميين في القصر، رفيق شلالا، يشرح أول من أمس، تفاصيل «العراضة» سألته مراسلة لبنانية ــ فرانكوفونية: «شو يعني غاماحة»، فشرح لها شلالا ــــ وبدا معتاداً على ذلك ــــ بأن «الغماحة» هم الذين يحملون الرِماح. بعد ذلك، سيدخل الرئيس إلى مكتبه. سينال الرئيس «عالوصلة» وسامين. الأرز الوطني والاستحقاق اللبناني. عادةً يقلّد الرئيس القديم خَلفه الوسامين، لكن يفترض أن يجد الجنرال عون أوسمته على طاولة المكتب. شلالا يقول إن هذا بسبب «الفراغ الرئاسي الطويل». ولسيرة الفراغ، الذي يرى كثيرون أنه ممتد منذ ٨ سنوات ونصف السنة، الرئيس السابق ميشال سليمان ترك لوحة طريفة على مدخل قاعة السفراء تتناول «إعلان بعبدا» الذي يتحدث عنه سليمان «عالطالعة والنازلة». ولكن الإعلان مات وسليمان يرفض التصديق رغم وجود شاهد وضعه بنفسه على القبر، والشاهد هو اللوحة اياها. هل سيستبدل عون هذه اللائحة بإعلانٍ جديد أو يدخل الجديد إلى القصر؟ ما هو مؤكد أن صورة عون ستضاف إلى ١٢ رئيساً سابقاً صورهم موجودة في صدر القصر.
افتتح القصر الجمهوري ببعبدا عام ١٩٦٩ أي قبل ست سنوات من اندلاع الحرب الأهلية
يبدون متساوين في الصور، لكنهم بطبيعة الحال غير متساوين في الواقع وفي الصلاحيات وفي حصتهم من التاريخ.
تاريخياً، عهد الرئيس الهراوي هو ألطف عهد، عهد النهفات كما يقول مجايلون. إلى هذا القصر جاء الرئيس السوري بشار الأسد والملك عبد الله السعودي، أيام السين سين. ساركوزي جاء بعد تطبيق اتفاق أصدقائه في الدوحة أيضاً. ولكن تاريخ القصر أقدم من ذلك، ليس بكثير. بشارة الخوري وكميل شمعون أقاما في القنطاري ريثما أنهت شركة سويسرية تنفيذ القصر في بعبدا. فؤاد شهاب ابتعد عن بيروت قليلاً وأدار البلاد من كسروان. حتى شارل حلو، استأجر قصرا في سن الفيل. وفي عهده اقترحت زوجته نينا حلو ومدير الآثار آنذاك موريس شهاب، اضفاء طابع لبناني على القصر العتيد، أي المندلون الشرقي والقناطر والحجر الأصفر، كما في قصر بيت الدين. قبل ٦ سنوات فقط من الحرب الأهلية افتتح قصر بعبدا، وقصف في ١٩٧٦، ثم احتله العدو الاسرائيلي في ١٩٨٢، وقصفته القوات السورية في ١٩٨٩، قبل خروج العماد ميشال عون منه.
من حديقة القصر التي تجاور مكتب الرئيس، تبدو البلاد متراصة بيوتها فوق بعضها البعض. أرقام فوق أرقام، طوائف فوق طوائف. القصر يطل على بعبدا، الضاحية الجنوبية، وعلى بيروت. على المدخل لدينا نافورة أول القصر. نافورة مبهجة، الكثير من الماء المتصاعد منها على نحوٍ يصر على وجود حياةٍ في المكان. المكان المعطّل أكثر من مرة، ولكنه يبقى رمزاً لهيكل الدولة. العلم لا يرتفع إلا بحضور الرئيس. كذلك النشيد الوطني. بروتوكوليات باقية من ارث قومي عالمي لا يعرف الأفول، لكنها في لبنان تتغذى من عصبيات واحترابات. وعلى نحو نوستالجي، ثمة ما يجمع اللبنانيين في القصر أيضاً. تعرفون، قصة الاستقلال كما ترد في كتاب التاريخ المدرسي العجيب: هناك صالون 22 تشرين الثاني للاستقبالات الكبيرة. واسع نسبياً، أنيق، لكنه يكتنز لوحات مبالغ في بساطتها. وإلى جانبها، قاعة السفراء، الكبيرة نسبياً هي الأخرى، والتي تضم الكرسي الشاغر الشهير، الذي يصوّر كل مرة للدلالة على الفراغ الرئاسي. في البهو الذي يجمع كل هذه الأبواب تماثيل رومانية بقيمة فنية عالية بالمقارنة مع اللوحات التشكيلية التقليدية داخل القاعات. سبق للرئيس إميل لحود أن أدخل التماثيل الرومانية إلى القصر. واحد منها كان بلا رأس، ما دفع صحافيين إلى تسمية الجمهورية بعد بدء الفراغ بـ«جمهورية الرأس المقطوع». وهناك ما يسمّيه الحرس بـ«مدخل وزراء»، أو «مدخل رقم ٣٢». ليس أشهر مداخل القصر الجمهوري في بعبدا، ولكنه المدخل الذي يؤدي إلى قاعة مجلس الوزراء في القصر. يستقبل زواره بلوحة تمثل «التعايش» اللبناني بصيغته الطائفية المبتذلة: كنيسة ومسجد جنباً إلى جنب. ولكن هذه القاعة تمثّل التفوق «الرمزي» للموارنة في هيكل الدولة، بحيث يترأس رئيس الجمهورية في تلك القاعة السلطة التنفيذية، أي جلسات مجلس الوزراء. إنها القاعة الأكثر تضرراً من الناحية المعنوية بين قاعات القصر الكثيرة. كل ما في «قصر الشوق» لبناني، ويتسق مع الصورة المؤسطرة للبنان، التي تنشد الفرادة عن محيط ثقافي وجغرافي. عمارة القصر تتلاقى مع المخيال الماروني في تصوره للبنان. أروقة واسعة وجدران عملاقة بسقوف مرتفعة تظلل قاعات رحبة، بينما القصر في كليته ليس ضخماً. ضخامته من الداخل وليست من الخارج. يبدو القصر ودوداً من الخارج ويقوم على قاعدة ريفية، أما من الداخل فيحاول أن ينفلش كما لو أن غرفه تحاول أن تتسع، كما لو أن اتصالها بالبهو دليل على رغبتها بلعب دور يتجاوز وظيفتها. قد يكون هذا تطفلاً على الطابع الهندسي للقصر. لكن اللوحات المثبتة على جدرانها تدل على هوية اكتسبها أو راكمها مع الوقت. لوحات لموسى طيبة وحسن جوني وايلي كنعان وأمين الباشا، وهي لوحات متواضعة في قيمتها الفنية، لكنها بطبيعة ريفية وتحاكي لبنان متخيلاً أكثر من لبنان الواقع تاريخياً وحاضراً. لوحات تشبه الاحتفاء المجاني بجبران خليل جبران، أو صيت أمين معلوف المبالغ فيه.
جيلان من الصحافيين، من الجمهورية الثانية، على أعتاب الجمهورية الثالثة، شاهدا افتتاح القصر يوم السبت الفائت. جيل عاصر الهراوي ولحود وسليمان، وجيل جديد. من الجيل الأول، كانت الزميلة هدى شديد من المؤسسة اللبنانية للإرسال تردد بنبرة فرحة وصادقة في كوريدودر الإعلاميين، وهم يتلهون بإلقاط الصور البريئة: «هاشتاغ: رجعنا». تقول أغنية «أوتيل كاليفورنيا» الشهيرة: «ثمة من يرقص ليتذكر، وثمة من يرقص لينسى». بين الحاضرين في القصر أمس، ثمة من فهم «العودة» إلى القصر، على أنها عودة للرئيس، وثمة من فهمها على أنها عودة ميشال عون إلى القصر.