قبل أسبوع، جاء سعد الحريري إلى بيروت. جال وحمل أفكاراً أو مبادرة أو مشروع انعطافة أو مسعى حل... فكانت الخطوة كافية لصوغ ثلاث نظريات لثلاث مؤامرات متخيلة في فضائنا:الصيغة الأولى لنظرية المؤامرة الأولى، تقول بأن مشوار الحريري إلى بيروت لم يكن مجرد خطوة ولا طبعاً نزهة. وأن عقلاً كونياً جهنمياً استدعى نفسه في مكان ما، وفكّر وخطّط وتآمر، ودبّر خارطة الطريق التالية: يأتي زعيم "المستقبل" إلى لبنان، حاملاً فكرة تأييد ميشال عون رئيساً للجمهورية. لا ينبسّ ببنت كلمة عن أي موافقة سعودية أو اعتراض من المملكة على الاسم. ولا يذكر اسم المرشح كذلك. بما يترك خطوته مشوبة بالكثير من الغموض واللبس وعدم اليقين، خصوصاً في عقول الذين يستبطنون الوصاية في عقولهم ويولدون بعطب دولة القناصل وينتظرون أي وحي موحى قبل أن يفكّوا رجلهم عن رجلهم. هكذا، يرمي الحريري بحصته تلك في مياه الرئاسة الراكدة. فماذا يحصل؟ يسارع فريق إلى الحذر والرفض والتمنّع والتعنت، مستنداً إلى أن الرياض لم تعط كلمتها بعد، وأن أجواء المنطقة لا تشي بحلول جذرية وأن واشنطن منهمكة بانتخاباتها غير المنجزة فكيف لها أن تأذن الآن بإنجاز انتخاباتنا... تصير مبادرة الحريري عند جدار تلك الحسابات والتخيّلات. فماذا يحصل؟ إما أن تسقط. وإما أن تصمد وتعبر. لكن أي نتيجة للاحتمالين، في تصوّرات منظّري المؤامرة الأولى؟
إذا سقطت مبادرة الحريري بدعم عون، تكون بيروت أمام وضعية من اثنتين: إما إشكال شيعي ــــ شيعي، بين حزب الله وأمل، على خلفية تأييد الأول لعون ورفض الثاني له. وإما إشكال مسيحي ــــ شيعي، على الخلفية المعروفة والمعزوفة طويلاً، والتي ــــ للمصادفة ــــ جاء سجال بكركي ــــ عين التينة ليجرّ كثير ماء إلى طاحونة المنظّرين لمؤامرتها. في الحالتين، يكون حزب الله أمام مأزق. لا بل أمام معركة جديدة وحصار جديد وأزمة تضاف إلى سلسلة أزماته التي يتصوّرها المتخيّلون. وفي الحالتين، يكون الحريري ومن "خطّط" لفكرته، في خانة المتفرجين المنشرحين والمنتظرين قطف ثمار الفخّار المتكسر في المعارك البيتية أو البينية.
الفرضية الثانية في نظرية المؤامرة الأولى، تسأل: وماذا إذا صمدت مبادرة الحريري وانتخب عون رئيساً؟ يجيب المنظّرون سريعاً: عندها تعوّل المؤامرة على "جنون" عون، وروح الاستقلالية عنده، كي يبلغ الصدام مع حزب الله في وقت قريب. خصوصاً في مسائل مرتبطة بعلاقة الطرفين بحليف الحليف. فيربح محور العداء للمقاومة، عبر رئاسة عون، ما لم يتمكن من كسبه طيلة عقد كامل، عبر إقصائها عنه!
من الطبيعي أن تكون الصيغة الثانية لنظرية المؤامرة الثانية، مناقضة للأولى تماماً. يقول أصحابها، إنها مؤامرة الشيعية السياسية على السنية السياسية. "البنية المؤامراتية" لهذه الصيغة معروفة ومكررة. يقولون إن الشيعية السياسية، بعد انسحاب سوريا، وبعد الاتفاق الإيراني ــــ الغربي، وبعد تحول حزب الله لاعباً إقليمياً يتخطى دوره الساحة اللبنانية، بات ثوب "الطائف" أشد ضيقاً من الصدر الشيعي. يضغط عليه ويحبس أنفاسه ويتمزق بكل حركة من مجاله الحيوي الجديد. لكن الشيعية السياسية، وفي توقها إلى تركيبة لبنانية جديدة، تظل شديدة الحرص على عدم تحمّل مسؤولية تكسير البيض المطلوب للعجّة الدستورية الجديدة. كما على عدم الوقوع في نار فتنة مذهبية شيعية ــــ سنية في بيروت، تضيف إلى نيران ساحاتها أتوناً جديداً. لذلك، قدّم لها ميشال عون الفرصة الذهبية. ظلت متلطّية خلف ترشيحه، حتى قال سعد الحريري: حسناً. أنا موافق. عندها توزعت الأدوار بين اعتراض بري، مساعي حزب الله المؤيدة، ولكن العاجزة بصمت، أو الصامتة عن عجز، بحسب المنظّرين. عندها ما يكون مصير مبادرة الحريري أو موافقته؟ إذا صمدت وانتخب عون رئيساً، سقط نظام السنية السياسية من الداخل، نتيجة هزال الحريري وتحالف عون مع حزب الله. وإذا سقطت، ذهب الاستحقاق الرئاسي إلى العدم المطلق وسقط نظام الطائف من خارجه، نتيجة تصلّب الموقف المسيحي بعدها وجنوحه صوب رفض التركيبة القائمة وتفضيله المجهول على المفروض!
تبقى نظرية المؤامرة الثالثة. وبحسب المنطق القياسي المعروف، يفترض أن تكون خلاصة النظريتين السابقتين: ليست مؤامرة سنية على الشيعة. ولا هي مؤامرة الشيعة على السنة. إنها مؤامرة مزدوجة من السنية والشيعية السياسيتين على المسيحية السياسية. إنه تحالف ضمني، أو تقاطع حسابات وتوزع أدوار بين "المستقبل" والثنائية الشيعية، لإحراق آخر الأوراق المسيحية. يعلن الحريري تأييده. يتريث بري وينتظر. حتى يمر الوقت حتى آخر الوقت. عندها تخرج أصوات منسقة بين الداخل والخارج، وتقول للمسيحيين بكل زعاماتهم ومرجعياتهم: ماذا تريدون منا بعد؟ لقد وافقنا على "رباعيتكم" واحداً تلو الآخر. وحصدنا استمرار المأزق مرة تلو الأخرى. لقد استنفدت أوراقكم وأوقاتكم، وحان وقت الحل. وحينذاك، تكون القوى الخارجية نفسها التي هندست حلي العامين 2005 و2008 جاهزة للتدخل بجدية وفاعلية. وفق صيغة: فليتفضل صقور المسيحيين وديوكهم بالتراجع. وليتقدّم موظف فاسد من هنا أو فاشل من هناك، لننقذ النظام والبلد والدولة والوطن، واحمدوا ربكم أننا أبقينا الرئاسة لماروني!
هل يعقل لخطوة واحدة أن تكون ثلاث مؤامرات متناقضة، ولا شيء غير مؤامرة؟ إنه الهوس اللبناني برمي المسؤولية الشخصية والتنصل منها. بدليل أنه يكفي لمسؤولين لبنانيين أو ثلاثة أن يقولوا نعم الآن، لتتحول المسألة إلى حل جدي وجذري وفوري. وأن ينتخب رئيس في 31 تشرين الأول، أو قبله حتى.