فهم الأوضاع الانتخابية في جونية يتطلب تخيل طاولة مستديرة يجلس حولها أربعة لاعبين أساسيين: الرئيس التنفيذي لمجموع شركات "إندفكو" نعمة افرام، النائب السابق منصور البون، النائب السابق فريد هيكل الخازن، ورئيس بلدية جونية السابق جوان حبيش.خلف افرام تجلس مجموعتان: تضم الأولى أصدقاء والده وزوجته وعدة أفراد من أسرته، وغيرهم ممن يميلون تاريخياً إلى عقد التفاهمات، سواء مع العماد ميشال عون أو مع البون، مروراً بالخازن وكل الآخرين، فيما يتربع في الثانية ابن عمه الذي يدير عملياً غالبية شركات آل افرام، وعدة أصدقاء غالبيتهم يدورون في فلك القوات اللبنانية يشدونه في اتجاه وقف المساعدات الخيرية السياسية وخوض الاستحقاقات منفردين، ليكتشف آل افرام أخيراً حجمهم ويتبينوا ما لهم وما عليهم. فالبون وافرام يشاركان في احتفالات الفوز عادة، لكن لا أحد سيتقبّل مع آل افرام التعازي حين يخسرون. أما الكرسي الذي يجلس افرام عليه فقد ورثه عن والده صحيح، إلا أن القوات اللبنانية "شدشدت" مفاصله. فبعد فشل القوات في تنسيب شخصيات كسروانية مؤثرة أو توطيد علاقتها بالنواب السابقين الذين يدورون في فلك 14 آذار، كما حصل في أقضية أخرى، وفشل تجربة عميد حزب الكتلة الوطنية كارلوس إده، لم يبقَ أحد غير افرام في كسروان يمكن معراب التعويل عليه. علماً أن افرام كان يكتفي بما يُعطى له دون معارك. لكن حماسة أصدقائه أولاً، ودعم القوات ثانياً، والطابع الشخصيّ جداً للمعركة بينه وبين حبيش ثالثاً، ومعرفته أن انسحابه أو خسارته من دون إثبات حضوره في المدينة أقله سيمثل ضربة موجعة لطموحه السياسيّ رابعاً، كلها تدفع في اتجاه استمراره في المعركة هذه المرة، رغم كل تشكيك البون والخازن.
البون قصة أخرى: هو المقصود بالمثل القائل "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها". فخلال مسيرته السياسية الطويلة لم يشبع وريث فؤاد البون من حفر الحفر والوقوع فيها، لكنه أصيب أخيراً بفوبيا من الغدر تحول دون سماحه لأحد بالوقوف خلفه فيدفعه في الحفرة فور إنهائه الحفر. وقد بادر البون إلى تشجيع عضو جمعية مار منصور دي بول فؤاد البواري على تشكيل لائحة لخوض الانتخابات البلدية في جونية. وبواري أكثر من يدين بالولاء للبون في كسروان كلها، لا في جونية فقط. وقد مثل ترشيحه فخاً "شديد الذكاء" لآل افرام. ففي حال استمرار اللوائح الثلاثة، ستتقاسم لائحة افرام والبون الأصوات التي أتاحت لها الفوز بفارق ضئيل جداً على لائحة حبيش، فيفوز الأخير ويقصد البون الرابية ليسمع شكر الجنرال وثناءه على نجاح البون بتشتيت أصوات خصومه. وفي حال تراجُع افرام، كما يتوقع البون، سيكون مرشحه (البواري) رئيس اللائحة هذه المرة ويُحتفل بالفوز في حال فوز البواري في منزل البون، ليعتبر الأخير عندها زعيم جونية الأول ومرجعيتها لا آل افرام أو غيرهم. وتشير الصيغ المتداولة اليوم إلى حصول مرشح البون على رئاسة اللائحة ومرشح افرام على نيابة الرئاسة، أو حصول كل منهما على الرئاسة ثلاث سنوات. وتمثل الحالتان ربحاً مدوّياً للبون. أما الجدير ذكره أخيراً في شأن البون، فهو أنه كان أول من هلّل لترشيح حبيش باعتباره يبعد من طريقه مرشحاً جدياً إلى الانتخابات النيابية على اللائحة العونية.
التيار سيتكئ
مستقبلاً على جنرالين في كسروان: العسكري شامل روكز والمدني جوان حبيش

الخازن واقع في المقابل "بين شاقوفين": ويله أن يربح عديله (افرام) بامتداداته المعرابية وويله أن يربح مرشح البون. يعيش "الشيخ" حالة "خسارة تامة". ففوز بواري سيعتبر فوزاً للبون رغم محاولات الخازن القول إن البواري قريب منه أيضاً، وفوز فادي فياض سيعتبر فوزاً لافرام وحده. وعليه يبدو الخيار الأنسب للنائب الكسرواني السابق هو قطع الطريق الفاصل بين بيته والرابية للقول إن مرشح الجنرال مرشحه ولا يجوز في الشرع السياسي إلهاء زعيم الموارنة بمعارك جانبية صغيرة، ليتناغم بذلك بلدياً مع خياراته السياسية ويبني جسراً جدياً بين الرابية وبنشعي، محوّلاً علاقته بالنائب سليمان فرنجية من نقطة ضعف بالنسبة إليه في الأوساط العونية إلى نقطة قوة. و"الشيخ" لا يحتمل خسائر إضافية. فهو خارج المجلس النيابي منذ أكثر من عشر سنوات، وخارج المجلس البلدي منذ ست سنوات ويتفرج على الأحزاب تزاحمه في أبرز معاقله. وعذر الخازن جاهز: فوّض افرام إيجاد مخرج توافقي ففشل ومرشحه إلى رئاسة المجلس البلدي فادي فياض جُرب في المجلس البلدي الحالي وهو يصلح كمرشح توافقي لا كمرشح معركة. والجدير ذكره أن حبيش مهد الطريق للخازن حين زاره أكثر من مرة، مقدماً أكثر من عرض تشجيعيّ.
حبيش بدوره يواصل العيش في حالة "رابح رابح". فهو خاض الانتخابات البلدية عام 2010 في وجه افرام والخازن والبون والقوات والتيار والكتائب وكل من يريدون ردّ جميل ما لآل افرام، ومع ذلك حصد أكثر من 44 في المئة من أصوات المقترعين وتحول إلى "مَضرَب مَثَل" تنسج حوله الأساطير. أما اليوم، فهو يرى خصومه المفترضين مضعضعين كما لم يكونوا يوماً ويحظى بدعم شبه مطلق من التيار الوطني الحر الذي ينظر إلى حبيش منذ أكثر من عامين باعتباره ضالته الكسروانية المنشودة. وبات واضحاً أن التيار سيتكئ مستقبلاً على جنرالين في كسروان، واحد عسكري يدعى شامل روكز، وآخر مدني يدعى جوان حبيش. الأمر الذي يبقي القوات اللبنانية في حالة استنفار في جونية هذه الأيام، بحثاً عمّا يحول دون انطلاق هذه الثنائية في كسروان بدفع كبير. والخيارات المتوافرة قبالة حبيش تفيد بالتالي: في حال استمرار اللوائح الثلاثة سينتصر حتماً. إذا "كوّع" البون أو الخازن أو الاثنين معاً باتجاهه، سراً أو علانية، سينتصر أيضاً. إذا التمّ حلفاء الأمس بعضهم على بعض من دون استمالة التيار الوطني الحر سيبقى هو المنتصر. في حال اتفاق افرام مع الخازن ومع البون، وأقنعوا العماد ميشال عون بطريقة ما في تقديم جونية هدية مجانية للقوات، ستخاض معركة يحتفل حبيش في ختامها، سواء بالفوز أو بحصوله منفرداً مجدداً على أكثر من 40 في المئة من الأصوات.
قبل أسابيع قليلة كان مشهد جونية ينبئ بمعركة كسر عظم بين العونيين والقوات من جهة، والنائب سليمان فرنجية ممثلاً بالنائب السابق فريد هيكل الخازن من جهة أخرى. لكن المشهد تغير بالكامل بسرعة استثنائية، إذ تموضعت القوات بهدوء خلف افرام، فيما تموضع العونيون بهدوء أكبر خلف حبيش. وفي ظل العلاقة الودية المستجدّة بين القوات والعونيين، يبدو أن اتفاقاً تم بينهما على عدم إعلان موقف رسمي مما يحصل حتى الآن أو ترك الحرية علانية للناخبين. وبعدما خرج الخازن جزئياً من المعركة، بات البون الذي بدا حضوره ثانوياً قبل أسبوعين اللاعب الأساسي هذه الأيام. علماً أن البون آخر من ينام في جونية منذ أكثر من أسبوعين وأول من يستيقظ. وهو حين يلتقي مع حبيش في عشاء صغير، يحرص على أن يقود السيارة بنفسه في طريق العودة ليوصله إلى منزله ويتأكد من عدم مبارحته المنزل، فيما هو يصول في جونية ويجول. وحين يلتقي الرجلان في السوق العتيق، يحرص البون على إحاطة حبيش بذراعه من الخلف والتأخر عنه خطوة صغيرة، متظاهراً كل مرة بأنه يصافح أحد الأشخاص، فيما يفتح حبيش عينيه جيداً بحثاً عن حفَر البون، لثقته بأن تظاهر صديقه الجديد بـ"السهيان"، إنما يخفي الكثير من "الدواهي".