غزة | أكملت قوات العدو، أمس، انسحابها من كل المناطق التي توغّلت فيها في مخيم جباليا والأحياء المحيطة به في شمال قطاع غزة، بعد عملية استمرت عشرين يوماً. وحمل الاجتياح البري الثاني الذي تعرّضت له المنطقة منذ بداية الحرب، طابعاً أكثر اتساعاً وعدوانية، إذ توغّلت مئات الآليات في المناطق الشرقية لمحافظة الشمال، ومنها حيّا الصالحين والسكة، ومن هناك تقدّمت إلى عمق المخيم، في منطقتي الترنس وعيادة الوكالة، ثم تمدّدت إلى حي الخلفاء الراشدين وشارع العجارمة ومشروع بيت لاهيا. المشاهدات الميدانية التي وثّقتها «الأخبار» خلال جولة في تلك المناطق، أظهرت بذل جيش الاحتلال جهداً عملياتياً كبيراً ، حيث أمضت حفّاراته عدّة أيام في صناعة حُفر كبيرة جداً وعميقة، في مناطق ظنّ أن الحفر العميق فيها سيقوده إلى أنفاق استراتيجية. في تل الزعتر مثلاً، حفرت قوات الاحتلال في موقع بئر جوفية، حفرة وصل عمقها إلى نحو 25 متراً، قبل أن تصل إلى «الموتور» الغاطس للبئر الجوفية. أما في منطقة الرزان في مشروع بيت لاهيا، فقد حفرت حفرة يصل قطرها إلى 100 متر بعمق تجاوز الـ30 متراً؛ وفيما لم يُظهر الموقع أي آثار للأنفاق، رجّحت مصادر ميدانية أنّ جيش العدو تعرّض هناك لكمين قاتل، تسبّب بمقتل وإصابة عدد من الجنود.على أن الطابع المميِّز لهذا التوغّل، هو أن قوات المدرّعات زجّت للمرة الأولى بالعشرات من الآليات المجنزرة غير المأهولة. و يقول مصدر ميداني تحدّث إلى «الأخبار»، إن «ذلك الروبوت هو عربة مصمّمة بشكل مشابه لآلية m113 القديمة، تتحرّك بسرعة محدودة، ومحمّلة بنحو 4000 كيلوغرام من المتفجّرات، وقد استخدمها العدو للمرة الأولى في مخيم جباليا، حيث زجّ بها في وسط الأحياء السكنية التي تحوي بيوتاً متراصّة، بهدف استدراج المقاومين. وحينما تمّ اكتشاف الخديعة، لجأ الاحتلال إلى الدفع بتلك الآليات لنسف البلوكات السكنية قبل أن تتوغّل الدبابات المأهولة».
دمّر جيش العدو في جباليا 3500 وحدة سكنية وكامل البنية التحتية


خلال التجوال في المخيم، يبدو واضحاً أن الهدف العملياتي غير العسكري، كان تحويل مخيم جباليا الذي كان يضجّ بالحياة، وشكّل مأوى لمئات الآلاف من النازحين في الأحياء الطرفية المحيطة به، إلى منطقة غير صالحة للعيش. ووفقاً لتقديرات ميدانية أولية، فقد دمّر جيش العدو نحو 1000 منزل، بواقع 3500 وحدة سكنية، فضلاً عن كامل البنية التحتية، من شبكات مياه وصرف صحي تمّ استحداثها عقب التوغّل الأول في كانون الأول الماضي. وإلى جانب ما تقدّم، أحرق الاحتلال عشرات مراكز الإيواء التي مثّلت، منذ بداية الحرب، آخر الأشكال المنظّمة لإيواء النازحين.
غير أنه وعلى رغم المشهد القاسي الذي يمتدّ من حي الفالوجا غرب المخيم، وحتى حي السكة شرقه، حيث بدت المنطقة وكأنها ضُربت بزلزال مدمّر، بدأت آلاف الأسر بشدّ الرحال إلى البيوت في المخيم، حتى تلك المدمّرة منها. وفي الشوارع، برزت الجهود الطوعية لإزالة ما يمكن إزالته من آثار العدوان، وبدأ الأهالي في فتح الطرقات وتنظيف حتى لو غرفة واحدة تبقّت في منازلهم. وفي مساحات الأراضي الصفراء التي كانت قبل أسابيع تضجّ بنمط عمراني هو الأكثر ازدحاماً في القطاع، بدأت أُسر أخرى بناء خيام على أنقاض المنازل. ويقول أبو محمد حنونة، وهو أحد العائدين ويبلغ من العمر 65 عاماً، لـ«الأخبار»، إن «الهدف الرئيسي من عودة الاحتلال إلى جباليا هو التهجير. أعادوا الناس إلى الصفر، من دون أي ممتلكات. ومن لا يملك شيئاً، لا بيت ولا وظيفة ولا سيارة، يسهل عليه قرار الهجرة، لكن والله لن نترك جباليا. اليوم بدأت أبني خيمة على أنقاض البيت، حتى أقول لهم إن علاقتنا بالبلد ليست علاقة نفعية. البلد ليس فندقاً، نحن ولدنا هنا، ونموت هنا. لن نترك جباليا إلا عائدين إلى بلادنا، وهي محرّرة».