فيما تستعدّ إسرائيل للاحتفال بالذكرى السادسة والسبعين لتأسيسها على وقع استمرار الحرب في غزة، وما صاحبها من أحداث دموية، منذ أحداث السابع من أكتوبر، تبدو الأيديولوجية الصهيونية محاطة بجملة تساؤلات، في ظلّ تبلور قناعة راسخة لدى قطاع واسع من الرأي العام العالمي، تنحو في اتّجاه تبنّي تعريف «مشوّه» لمصطلح الصهيونية واستخدامه كسلاح (ضدّ إسرائيل)، من خلال تصوير مضامين هذا المصطلح على أنها شكل خبيث من أشكال العصبية (الدينية والعرقية) الضيّقة والعنصرية.
وبهدف الوقوف عند خلفيات التطوّرات الحالية الجارية في إسرائيل، فضلاً عن تاريخها المضطرب، فمن الضروري توضيح ما كانت تعنيه الصهيونية، التي نشأت كحركة قومية حديثة في أواخر القرن التاسع عشر. فالفكرة الرئيسية للصهيونية هي أن اليهود يشكّلون أمة، وهم بذلك يتمتّعون بالحقوق المنصوص عليها في المواثيق الأممية لحقوق الإنسان، بما في ذلك الحقّ في تقرير المصير، من دون أن يعني ذلك أن اليهود متفوّقون على الآخرين، بمن فيهم الفلسطينيون، وتحديداً لناحية عدم إنكار تمتُّع هؤلاء الفلسطينيين، أسوة باليهود، بالحقوق المشار إليها، كالحقّ في تقرير المصير.
(...) لن يروق لأيّ من الأشخاص الذين يجادلون بأن اليهود ليس لديهم أيّ حقوق على الإطلاق في الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وهو منطق غريب، بالنظر إلى أن اليهود كان لهم وجود مستمرّ، وعلى الدوام، في تلك الأرض، وارتباط ثقافي وروحي عميق بها، منذ حوالى 3000 عام. مع ذلك، وحتى في حال أنكرنا كل هذه الادّعاءات التاريخية، ونظرنا إلى المشروع الصهيوني على أنّه بلا أساس على الإطلاق، فإن الحقيقة تبقى أن هناك أكثر من 7 ملايين يهودي يعيشون بين البحر الأبيض المتوسط والأردن، معظمهم ولدوا داخل إسرائيل، وغير مرحّب بهم في أيّ مكان آخر في العالم. ولأنه قد بات من الواضح أن هؤلاء يشكّلون الآن شعباً لدولة، وأن إنكار حقيقة وجودهم أو إنكار تطلعاتهم القومية سيؤدّي إلى وقوع المزيد من الصراعات، التي يمكن أن تشهد استخداماً للسلاح النووي، فإنه لا يمكن ضمان الحلّ السلمي إلا من خلال الإقرار بأنه، وفي ظلّ الوضع الحالي في عام 2024، يستحقّ كل من اليهود والفلسطينيين العيش بكرامة وأمن في دولة نشأوا فيها معاً.
الصهيونية وحلّ «الدولة الواحدة»
يجادل البعض، ولا سيما أولئك ممَّن يؤيدون فكرة «حلّ الدولة الواحدة» على أرض فلسطين التاريخية، بأن الطريقة المثلى لضمان حقوق اليهود والفلسطينيين هناك على حد سواء، تتمثّل في إقامة دولة ديموقراطية واحدة، تمتدّ من نهر الأردن وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط، وبأن الصهيونية تمثّل العقبة الرئيسية أو الوحيدة أمام الوصول إلى ذلك الحلّ، وهو نقدٌ في غير محلّه، لاعتبارات تتعلّق، وعلى الرغم من التسليم بأن «حل الدولة الواحدة» من الناحية النظرية يمكن أن يشكّل ضمانة للحقوق المشار إليها، بأن مسار التاريخ يعاكس تصوّرات من هذا النوع، كما شهدنا في حالة الاتحاد السوفياتي، حيث بدا أن التطلّعات إلى تحقيق «المجتمع الشيوعي» وإنْ كانت جيدة على الورق، إلا أن محاولة تحويلها إلى واقع قائم قد تسبّبت في حصد أرواح الملايين. إزاء ذلك، يَطرح بعض الإسرائيليين المتوجّسين من «حلّ الدولة الواحدة»، تساؤلاً مفاده: «إذا لم تتمكّن أيّ من الدول العربية المجاورة، ولفترة طويلة من الزمن، من إرساء نظام ديموقراطي، فما هي احتمالات أن تكون الدولة المفترضة، التي تضمّ كلّاً من اليهود والعرب، الاستثناء من هذه القاعدة؟».
(...)
ويمكن القول، إنّ ما شهده قطاع غزة، منذ أحداث السابع من أكتوبر، ومن جملته ما وقع هناك من مجازر وتدمير، في موازاة تعرّض فلسطينيي الضفة الغربية للقتل والتشريد، ورفض ائتلاف نتنياهو الحكومي الالتزام بأيّ خطة سلام مستقبلية (مع الفلسطينيين)، لا يشير إلى أن نتنياهو قد بدّل في مواقفه في هذا الخصوص، بل على العكس، فإن ما جرى منذ ذلك الحين، يحمل دلائل على أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تحترم الحقوق الفردية للفلسطينيين، وتطلعاتهم الوطنية الجماعية.
وفي حين أن البعض يرى في تطرُّف الائتلاف الحكومي الذي يقوده نتنياهو الثمرة الحتميّة للعقيدة الصهيونية، على اعتبار أن التطرّف، وانتشار خطاب الكراهية، والعنف، هي نتاج الأفكار القومية (ذات الطابع العنصري)، إلا أنه لا يمكن حصْر النظرة إلى الأفكار القومية على أنها شكل من أشكال التعصّب، القائم أصلاً على مشاعر الكراهية للأجانب والأقليات، وقناعات بتفوّق جماعة عرقية ما على أخرى، ولا سيما أن الانتماء القومي والوطني، على النقيض من ذلك، يقوم على محبة المواطن لأقرانه من أبناء وطنه، والشعور بارتباط عميق بثقافة البلاد وتقاليدها التي تطوّرت على مر العصور، على نحو يدفع المواطنين إلى اعتناء بعضهم ببعض، عبر طرق شتى، على غرار دفع الضرائب وتمويل خدمات الرعاية الاجتماعية. وبهذا المعنى، لا بدّ من القول إن الخلط بين الانتماء القومي والتعصّب، والإخفاق في التمييز بينهما، يصبّ في مصلحة نتنياهو، الذي يتبنّى خطاباً سياسياً قائماً على كراهية واضطهاد غير اليهود، بما يشير ضمناً إلى عدم وجود بديل سياسي عن الائتلاف الحكومي الحالي الذي يرأسه الأخير، من منظور قطاع واسع من الإسرائيليين، ولا سيما القوميين المتشدّدين منهم.
في ضوء ما سبق، لا يمكن تجاهل المخاطر الكبيرة، والواسعة التي باتت تحيق ليس فقط بإسرائيل، بل بكل اليهود في شتى أنحاء الأرض، خصوصاً أنه، في حال تمكّن نتنياهو وحلفاؤه السياسيون، من تعزيز قبضتهم على إسرائيل، فإن ذلك سيعني نهاية الرابط التاريخي الجامع بين الشعب اليهودي والأفكار المتعلّقة بقيم العدالة وحقوق الإنسان والديموقراطية في العالم، ووصم اليهودية بمختلف صنوف التعصّب والتمييز والعنف، على نحو قد يدفع بعض اليهود في البلدان الغربية، خصوصاً أولئك المقيمين في لندن ونيويورك، إلى إنكار أيّ علاقة لهم بدولة إسرائيل، وتأكيدهم أن ما يحدث في الشرق الأوسط لا يمثّل الروح الحقيقية للديانة اليهودية.
ما الذي أدركه «تيتوس»؟
ممّا لا شكّ فيه أن انتصار الائتلاف الحكومي، الذي يتزعّمه نتنياهو، والذي يحمل نظرة شديدة الانغلاق والتعصّب إلى العالم، يزعزع الأسس التاريخية للمشروع الصهيوني، بالنظر إلى أن هرتزل، الذي يُعدّ الأب المؤسّس للصهيونية في التاريخ الحديث، كان قد شدّد، ومنذ أكثر من قرن، على أن التعصّب يُعدّ خطراً وجوديّاً على الصهيونية. وقد شرح هرتزل ذلك في كتابه الصادر عام 1902، تحت عنوان «الأرض القديمة الجديدة»، محذّراً من مغبة انتشار أفكار في أوساط الصهاينة، من قَبيل تلك التي تروّج إلى أن اليهود أعلى شأناً من غير اليهود، بما يؤهّلهم للحصول على امتيازات خاصة، عادّاً تلك الأفكار «انحرافاً» عن القيم اليهودية، و»عنصراً هدّاماً» في مسيرة قيام الدولة اليهودية. ووفقاً لتصوّرات هرتزل، فإن دولة إسرائيل ينبغي أن تكون بمثابة وطن قومي للشعب اليهودي، مع إعطاء حقوق متساوية لجميع سكانها من غير اليهود.
وبالعودة إلى آلاف السنين من التاريخ اليهودي، وبالتحديد قبل نحو ألفي عام، فقد تسبّب فريق من المتدينين المتعصّبين من اليهود، في إلحاق كارثة رهيبة بالشعب اليهودي، حين تمرّدوا على الإمبراطورية الرومانية، من منطلقات دينية، وسط معارضة من الحاخام المعتدل، يوحنان بن زكاي، قبل أن يتعرّضوا للهزيمة على يد جيش القائد العسكري الروماني، فيسباسيان ونجله تيتوس، ليصار إلى احتلال مدنهم الواحدة تلو الأخرى، وصولاً إلى محاصرتهم في القدس، التي أُحرقت تماماً بعد احتلالها من الرومان. أما بن زكاي، فقد تمكّن من الهروب من المدينة، والنجاة بنفسه من خصومه من المتعصّبين اليهود، ليتحوّل لاحقاً، وبإذن من الإمبراطور الروماني، إلى الاكتفاء بتدريس تعاليم الديانة اليهودية، وليتوزّع أتباعه على عدد من البلدان حول العالم مذّاك.
هكذا، وبعد مرور ألفي عام، عاد اليهود من جميع أنحاء العالم إلى القدس، لتطبيق ما تعلّموه من حربهم ضدّ الرومان. فماذا عساها أن كون الحقيقة العظيمة التي اكتشفها اليهود خلال هذه الفترة؟ حسناً، وبالتأسيس على أقوال وأفعال نتنياهو وحلفائه، فقد اكتشف اليهود ما عرفه الرومان منذ البداية أصلاً، ألا وهو التعطّش للسلطة، إضافة إلى التفاخر بالشعور بالتفوّق، والمتعة القاتمة، والقائمة على سحق الشعوب الأضعف منهم تحت أقدامهم. فإذا كان هذا بالفعل ما قد اكتشفه اليهود في كل تلك الفترة، فيا لها من مضيعة لألفي عام! أمّا إذا ما كان اليهود قد تمكّنوا من استخلاص أيّ عبرة أخرى، لم يكن ليعلمها فيسباسيان، ونجله تيتوس، في الفترة المشار إليها، فإن هذا هو الوقت المناسب لإظهار ذلك.
* مؤرّخ وروائي إسرائيلي
(عن صحيفة «واشنطن بوست»)
ترجمة: خضر خروبي