غزة | تتكشّف يوماً بعد آخر، الفظائع التي ارتكبها العدو خلال اقتحامه مستشفيي «الشفاء» في مدينة غزة، و«ناصر» غرب مدينة خانيونس، جنوب القطاع. فالمئات من جثامين الشهداء تعثُر عليها فرق الإنقاذ الأهلية التي بدأت عملية شاقة للكشف عن مصير آلاف المفقودين. وخلال الأسبوع الماضي، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي أنه بعد بحث استمر عدة أيام، تمكّنت الطواقم المتخصصة من انتشال جثامين 30 شهيداً كانوا مدفونين في مقبرتين جماعيتين، إحداهما مقابل قسم الكلى، والثانية مقابل قسم الاستقبال والطوارئ، حيث تعمّد جيش الاحتلال إخفاءها ودفنها عميقاً في الرمال وأكوام القمامة. ووُجد بين جثامين الشهداء عدد من النساء والأطفال والمسنين، وآخرون تم تجريدهم من ملابسهم وقُيّدت أيديهم، في ما يدلّ على أن العدو تعمّد إعدامهم بدم بارد. وما زال مصير ألف من أفراد الطواقم الطبية والصحافيين والنازحين الذين كان المستشفى يؤويهم لحظة اقتحامه، مجهولاً. وفي الوقت نفسه، تمكّنت طواقم الدفاع المدني من انتشال جثامين أربعة شهداء أُعدموا ميدانياً وطُمروا بالتراب في شارع صلاح الدين في مدينة خانيونس. أما في مستشفى «ناصر» فقد انتشلت الطواقم المتخصصة، أمس، جثامين 73 شهيداً كانوا مدفونين في باحته، وبذلك يصل عدد الجثامين التي انتُشلت من المجمع إلى 283 شهيداً، جرى التعرف إلى 42 منهم فقط، فيما ما زالت هويات بقية الشهداء مجهولة. وتعيد تلك المجازر التي لم يبقِ جيش الاحتلال شاهداً واحداً يحكي فظائعها، التذكير بتاريخ طويل من جرائم الإعدام الميداني، في دير ياسين والطنطورة وقانا. غير أن الفارق في هذه الحرب، أن الدلائل المادية تسجّلها الكاميرات وتعرضها شاشات التلفزة، فيما لم يقم العالم الذي يتغنّى بحقوق الإنسان، بأي خطوة لإدانة وتجريم جيش الاحتلال، إذ يمر الخبر بارداً على وسائل الإعلام، في حين تشتعل الحيرة حول المصير في قلوب آلاف الأسر، التي لم تستطع حتى اليوم تحديد مآل أبنائها، خصوصاً أن جيش العدو لم يَقم بإصدار أي قائمة بأسماء المئات من الأسرى الذين اعتقلهم في عمليات اقتحام «الشفاء» و«ناصر».
من بين المكلومين، عائلة المبحوح في مخيم جباليا، والتي فقدت الاتصال بثلاثة من أبنائها بعدما حوصروا في مستشفى «الشفاء». ويقول أبو العبد لـ«الأخبار»: «حتى اللحظة لم نجد ناجياً واحداً يُخبرنا عن مصير أبنائنا. وصلنا إلى الشفاء في صبيحة يوم الانسحاب، وأحضرنا جرّافة للبحث عن جثامينهم إن كانوا قد أُعدموا، ولم نجد أثراً لهم، كما لا نعرف حتى اللحظة أي معلومات عن اعتقالهم. ارتُكبت كل الجرائم في الظلام، ولم يسمح جيش الاحتلال لأي نازح برفع رأسه عن الأرض طوال 18 يوماً. ومن كان يرفع رأسه ليشاهد ما يدور حوله كان يُقتل». أما أمّ محمود التي كانت «الأخبار» التقتها في قسم الكلى في مستشفى «الشفاء»، فقد بحثت طويلاً بين رماد الحريق عن بقايا عظام تدلّ على أن ابنَيها المصابَين قد قضيا حرقاً. وتقول: «حرقوا قسم الكلى بالقذائف. ما أنا متأكدة منه هو أن ولديَّ مصابان ولا يستطيعان الحراك. أبحث عن بقاياهما وسط الرماد، وأدعو الله ألا أعثر على شيء».
حتى اللحظة، لم توثّق وسائل الإعلام المحلية والدولية، سوى عدد محدود من شهادات الناجين من حصارَي «الشفاء». ويقول أحدهم الذي رفض الظهور في مقابلة صحافية: «يلزمنا أشهر، بل سنوات، لنخرج من صدمة ما شاهدناه. حفروا السراديب ودفنوا الناس أحياء، وحرقوا المباني بمن في داخلها، وانتشلوا الجثث المتحلّلة من القبور وأطعموها للكلاب، وأطلقوا كلابهم المسعورة على المرضى».