وفق كلّ الفرضيات والروايات، بما فيها الإيحاءات الإسرائيلية والتسريبات عبر وسائل الإعلام الأميركية، كان الاعتداء الذي تعرّضت له إيران أقرب إلى رسالة من كونه ردّاً جدّياً وفاعلاً ومؤثّراً في خيارات مؤسّسة القرار الإيراني، إذ لم تكن إسرائيل تحتاج إلى إثبات امتلاكها قدرات عسكرية متطوّرة، بل إن التحدّي الذي واجهته تمثل في إثبات إرادتها السياسية تفعيل تلك القدرات في مواجهة التحوّل الإيراني نحو الردع المباشر، والاستعداد للمخاطرة بالتدحرج إلى مواجهة واسعة. غير أنها فشلت في ذلك عندما اكتفت برسالة هي أقرب إلى إعلان نيّات إزاء المرحلة المقبلة.وكان تبلور قرار الردّ الإسرائيلي، بهذه الصورة، في ضوء الاعتبارات الموضوعية والذاتية، وموازين القوى داخل مؤسستَي القرار السياسي والأمني. فبعد المتغيّر الإيراني المفاجئ، وجدت تلك المؤسسات أنها أمام خيارات مُحدَّدة تتراوح بين ردّ تناسبي في الشكل والمضمون، وآخر رمزي اعتباري، وبينهما مستويات أخرى. لكن إسرائيل تجنّبت الردّ التناسبي انطلاقاً من إدراكها أن ذلك سيجرّ ردوداً أشدّ وأوسع ممّا شهدته فجر الـ 14 من نيسان، وسيدخل المنطقة في دوامة ردود متبادلة ستكون لها انعكاساتها على العمق الإسرائيلي وعلى الحرب في غزة، وأيضاً على جبهة لبنان، في ما يمثل «السيناريو الكابوس» بالنسبة إلى كيان العدو في هذه المرحلة. كما أن حقيقة اكتشاف تل أبيب أنها لم تنجح، مرة أخرى، في مواكبة المتغيّرات الداخلية والخارجية، وأثرها في بلورة الخيارات الاستراتيجية للقيادة الإيرانية، ولّدت لديها إرباكاً وقلقاً وانعدام ثقة بأيّ تقدير يمكن الاستناد إليه في بلورة قرار الردّ، مع هامش من القلق ناتج من ضبابية في فهم خلفيات التحوّل الإيراني ومداه. ومن بين الاعتبارات الرئيسيّة التي حضرت لدى جهات القرار أيضاً، تورّط إسرائيل في حرب مضت عليها نحو سبعة أشهر من دون أن تنجح في تحقيق الأهداف المؤمَّلة منها، علماً أن دولة الاحتلال لا تزال رغم ذلك متمسّكة بخياراتها العدوانية. تضاف إلى غزة، جبهات الإسناد في كلّ من لبنان واليمن، والتي لا تزال مفتوحة على سيناريوات أشدّ خطورة، ومن شأنها أن تتأثّر بأيّ تصعيد ضدّ إيران.
في المقابل، أدركت قيادة العدو مخاطر أن تبدو مردوعة، ومفتقرة إلى الإرادة السياسية التي تُمكِّنها من توجيه ضربات فاعلة وقادرة على التأثير على توجهات القيادة الإيرانية. كما أدركت أن مقتضيات استعادة الردع والحفاظ على مكانتها الإقليمية وصورتها لدى حلفائها، تستوجب ردّاً جدّياً وفاعلاً على الأقل. لكن ما يروَّج له أميركيّاً وإسرائيليّاً، هو أن حكومة بنيامين نتنياهو تجنّبت سيناريو أن يُسجَّل عليها بقاؤها مكتوفة الأيدي. وبحسب مؤيّدي هذه الرواية، نجح الخيار الذي انتهجته تل أبيب في إيصال رسائل محدَّدة، وفي الوقت نفسه في عدم التدحرج نحو مواجهة عسكرية واسعة، فيما رآه الطرف المقابل مؤشر ضعف وخيبة و»مسخرة». والواقع هو أن القرار كان خلاصة نقاشات بين مؤيّدي الخيارات المطروحة ومعارضيها، من دون إغفال العامل الأميركي الذي كان له الدور الأكبر في الدفع في اتجاه ما حصل، والذي يبدو أقرب إلى الطرفة القائلة إن «الجمل هو حصان سباق صمَّمته لجنة»، أي أنه لم يتساوق مع رأي أيٍّ من الأطراف التي ساهمت جميعها في صياغته، مع غلبة لتلك الحريصة على تجنّب الصدام العسكري الواسع.
انتقلت إيران إلى الردع المتوثّب والفعّال الذي يؤشّر إلى تحوّل أبعد مدى من الردّ على حادثة في ذاتها


وفي أحسن السيناريوات إسرائيلياً، وأقلّها إيرانيّاً، فقد تركت هذه الجولة، بحسب المعلّق العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، «ميزان الردع بين البلدين مفتوحاً على علامات استفهام ثقيلة الوزن (على رأسها): ماذا سيحدث في المرّة القادمة التي يحدث فيها تدهور؟». وإذ تساءل هرئيل عما إذا كانت إيران قد «تلقّت رسالة قوية بما فيه الكفاية بعد الهجوم على الأراضي الإسرائيلية الذي هو تجاوز كامل للخط الأحمر؟»، متجاهلاً حقيقة أن إسرائيل نفسها تلقّت رسالة مدوّية، ومفادها بأنه لم يَعُد في إمكانها مواصلة سياساتها العدوانية من دون أثمان تدفعها في أمنها وعمقها، فقد خلص إلى أنه في ما يتعلّق بالمرحلة المقبلة «هذه التطوّرات لا تبشّر بالخير حيال ما هو آت».
مهما يكن، لم يَعُد في وسع أحد، سواء في تل أبيب أو في عواصم القرار الدولي وعلى رأسها واشنطن، تجاهل حقيقة أن طهران فارقت، بمستوى أو بآخر، استراتيجيتها السابقة التي حقَّقت جزءاً كبيراً من غاياتها، وانتقلت إلى الردع المتوثّب والفعّال الذي يؤشّر إلى تحوّل أبعد مدى من الردّ على حادثة في ذاتها مهما كانت درجة خطورتها. ولذلك، ستُركّز الجهات المختصّة في الولايات المتحدة وإسرائيل، في المرحلة المقبلة، على قراءة السياقات والعوامل التي أدت إلى هذا التحوّل الذي في حال تكرّسه، سيشكّل محرّكاً رئيسيّاً في إنتاج معادلات إقليمية جديدة، وسيُعيد صياغة المفهوم الاستراتيجي الإسرائيلي والأميركي، والخيارات الواجب اتباعها في مواجهة الجمهورية الإسلامية.
وفي هذا الاطار، رأى خبير الشؤون الإيرانية في «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب، راز تسيمت، أن ما جرى هو انتقال إلى مرحلة «المواجهة المباشرة» التي تشكّل «المرحلة الثالثة والأخطر بين إيران وإسرائيل»، مشيراً إلى أن المرحلة الأولى كانت مع حلفاء إيران، والثانية كانت ضدّ إيران في سوريا، بهدف «منع نشوء حزب الله ثان» هناك، أو بتعبير آخر منع إعادة نهوض سوريا وبناء قدراتها بما يتلاءم مع المتغيّرات الاستراتيجية والعملانية. وأعاد تسيمت هذا التحوّل في الأداء العملاني الإيراني إلى وجود نظرة لدى قيادة الجمهورية الإسلامية عنوانها «أننا اقتربنا من نوع من التوازن الاستراتيجي مقابل إسرائيل بفضل المسيّرات والصواريخ والوكلاء والعتبة النووية»، إضافة إلى متغيّرات دولية، وإلى «ضعف إسرائيل».
في كل الأحوال، فإن القدْر المتيقّن من النتائج التي ترتّبت على الردّ الإيراني، والذي لم تنجح الرسالة الإسرائيلية المضادة في تبديده، أنه وفّر للجمهورية الإسلامية خياراً عملانيّاً رادعاً. ونتيجة لذلك، سيحضر سيناريو الاستهداف المباشر من قبل إيران بقوّة في عملية صناعة القرار في إسرائيل مستقبلاً، وستكون لذلك مفاعيله بنسبة أو بأخرى على هامش الأخيرة العملاني، إلا أن آثاره النهائية تحتاج إلى مزيد من الوقت، وربّما الجولات.