منذ أشهر، كتب شيخ إماراتي شاب التالي:«من ناحية، تشهد مدن الخليج ما قد يكون عصرها الذهبي من خلال المعارض الفنية والفعاليات والافتتاحات والمطبوعات والمبادرات الجديدة. ومن ناحية أخرى، لم تكن المنطقة أكثر كآبة من أيّ وقت مضى بسبب الهجوم المستمر على غزة. من الصعب التصالح مع هذا التنافر العاطفي والمعرفي».
لنبدأ من هذا الشيخ؛ فهو ينتمي إلى أكثر أنواع الأمراء والشيوخ لزوجة وثقلاً في الدم، واستفزازاً أيضاً. فهو الشيخ المثقف المحب للفن والثقافة. ولكي نعرف هذا النوع من الشيوخ، اسمحوا لنا بتقديم اجتهاد بسيط في ماهيّتها: لعلّ أفضل تعريف للثقافة هو أنها تمظهر متعدد الأشكال لنمط استهلاك أو حياة كل شخص منا. فثقافة المقاتل في غزة هي ما يستهلكه؛ علبة التونة داخل النفق، ما تحتويه خزانة بيت تحصّن فيه، الكتاب الذي يقرأه في عقده القتالية. وحين يقول أبو عبيدة إن أهم صناعة نمتلكها هي صناعة الإنسان المقاتل، فهو يتكلم عن عملية بنيوية ممنهجة لتنظيم ماهية استهلاك فئة من المجتمع، عقيدتهم القتالية، تنظيم استهلاكهم للعلم العسكري والأدبيات القرآنية والشعر العربي ودورة حياتهم اليومية من المنزل إلى المعسكر، للمبلغ الذي يصل المقاتل فيشتري به ملابسه البسيطة التي نراها في صور الشهداء من سروال الرياضة وقميص الكاروهات وساعة معصم رياضية. ومتى ما رأينا هذه العناصر نطمئن إلى أننا نقاتل بفئة المجتمع المنتمية إلى أكثر طبقاته تعففاً، ففي الأخير هؤلاء مشاريع شهادة، أكثر الأفعال البشرية تعففاً عن الحياة والاستهلاك وأعظمها إيثاراً.
الآن لنقلب الصورة، ولنتخيل نمط استهلاك عماده تذاكر طيران بالدرجة الأولى، سيارة أو سيارتان فارهتان، بدلات رسمية وربطات عنق وساعة معصم ثمنها بثمن إنتاج طائرة مسيّرة للمقاومة، جولات في باريس ولندن ودبي والرياض على «معارض فنية وفعاليات ومطبوعات ومبادرات جديدة»، ومن ثم صورة بابتسامة ثقيلة الدم بجوار «الفن» أي لوحة ما بعد حداثية على الجدار. الآن، لنسأل أنفسنا أيّ ثقافة سينتجها نمط الاستهلاك هذا؟ ومن ثم لنأخذ نفَساً عميقاً قبل أن نستوعب أن هنالك من يشير إلى هذه الثقافة بـ«العصر الذهبي»!
إنّ مشهد حامل قاذف «الياسين» في مقابل تركي آل الشيخ في حفلة لثقافة استهلاكية ليس مشهد خذلان، فصاحب هذه الثقافة لم يكن لينصرك بالأصل


في العصر الذهبي للتنمية
هناك أسطورة لدى قطاع كبير من الجمهور العربي، تخترق حتى من هم يتخندقون سياسياً ضد السياسة الخليجية، أن هنالك نموذج تنمية ناجحة في الخليج، وبأنه انظروا للتقدّم، واليوم هنالك دعائية واحتفالية تركّز أيضاً عن مستقبل الذكاء الاصطناعي، مستغلّين وقع أفلام الخيال العلمي لهذا المصطلح وأنه «واو». المشكلة والمفارقة أن معضلة التنمية في الخليج ليست شيئاً يقوله خصوم الممالك والإمارات، بل يقوله الأمراء أنفسهم، أنهم في مأزق الرهان التاريخي على النفط والغاز، وأنه يجب عليهم البحث عن نموذج تنمية آخر، أي أن ما نراه اليوم ليس نموذج تنمية ناجحاً، بل مسار البحث المرتبك عن التنمية، وذلك عبر استخدام أموال النفط في صناعة واحات استثمارية، يراد لها أن تشكّل مورداً بديلاً من النفط. ولكن، ولأننا نتحدّث عن فئة تصنع ثقافتها بالطريقة الآنفة الذكر، فانفجار الحالة الاستهلاكية تمثّل بشكل مفهوم وطبيعي «عصراً ذهبياً»، وهم مصيبون فهو العصر الذهبي للاستهلاك. فكما أخبرنا معلّمنا عبد الله البردوني عنهم: «لديهم أموال كثيرة، لكن ليس عندهم اقتصاد، فليس الاقتصاد كثرة الأموال».

الخذلان والاستقطاب: عصرنا وعصرهم
يقول المثقف الإماراتي إن «من الصعب التصالح مع هذا التنافر العاطفي والمعرفي». ولو أجّلنا مسألة تبيان العلاقة السببية بين ثراء الخليج وفقر باقي العرب، وقفزنا على بديهية التراث العربي في علاقة النعمة الموفورة والحق المضيّع، وإن تعقّلنا رومانسية الوحدة العربية العابرة للطبقات، وأن الخليجيين (بالمعنى الطبقي) قد خذلونا، وخذلوا فلسطين، لاكتشفنا أن هذا «الخذلان» هو في حدّ ذاته بشارة خير وبشارة نصر. فعندما نرجع إلى الخمسينيات والستينيات، نجد أنه كان ثمة، من الناحية الخطابية، وإلى حدّ ما سياسية، وحدة تجاه فلسطين من الأنظمة العربية، هذه الوحدة المشوّهة والمزيفة خطر كبير رأينا نتائجه. فكيف يستوي الجمع بين الثقافتين والنمطين الاستهلاكيين المذكورين، والأهم أن بديهية حركة التاريخ تقتضي الاستقطاب، وعبر اشتداده أكثر وأكثر، وصدامه، يتحرّك التاريخ. وتحرّك التاريخ هو مصلحة لنا.
إنّ مشهد حامل قاذف «الياسين» في مقابل تركي آل الشيخ في حفلة لثقافة استهلاكية ليس مشهد خذلان، فصاحب هذه الثقافة لم يكن لينصرك بالأصل. ومن المهم هنا الإشارة إلى أنّ ما يهدف إليه حمد آل ثاني هو حالة توفيقية للمشهدين، إنّ مشهد استماعه إلى «أبو عبيدة» من داخل الملعب، يجعلك تحمد الله على أمراء آل سعود! فلا يمكنك جمع تحرّك التاريخ العربي بين مشاريع بنية تحتية ضخمة متناقضة: أبراج وملاعب الخليج وأنفاق غزة.
جدليّة التاريخ العربي هي بين عصر طوفاننا وعصرهم الذهبي، وعليه فإنّ من اليقين أن هذا الاستقطاب كلّه خير لنا. وما علينا الحذر منه هو كيفية إدارتنا لهذا الاستقطاب والحذر من التقوقع على الذات واليأس من الأمة، فتاريخ هذه الأمة يصنع في خانيونس لا في المعارض الفنية الذهبية. والأهم أن نتذكر دائماً أن ما يحدّد الموقع الطبقي لأيّ عربي - بل لأيّ إنسان - في الخليج واليمن والشام ومصر والمغرب هو ليس إلا شكل علاقته مع «إسرائيل».

* كاتب عربي