في قضية هي الثالثة من نوعها، متعلّقة بتطوّرات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بعد دعويَين رفعتهما كل من جنوب أفريقيا، والأمانة العامة للأمم المتحدة، ضدّ كيان الاحتلال، عقدت «محكمة العدل الدولية»، في اليومَين الماضيَين، جلسات المرافعة في دعوى قدّمتها حكومة نيكاراغوا، ضدّ ألمانيا هذه المرّة - وإنْ بغياب إسرائيل، على أساس أن الأخيرة ليست طرفاً أصيلاً في الدعوى -، وذلك بتهمة تسهيل ارتكاب جريمة «الإبادة الجماعية» في غزة، على خلفية تزويد برلين، تل أبيب، بالأسلحة والأموال.

ماذا في الدعوى ضدّ ألمانيا؟
مذكّراً بظروف مشابهة لدعوى كانت قدّمتها حكومة بلاده ضدّ واشنطن، في ثمانينيات القرن الماضي، وخلصت فيها المحكمة إلى دعوة الولايات المتحدة إلى الكفّ عن دعم «جماعة الكونترا» العسكرية ضدّ حكومة ماناغوا الشرعية وقتذاك، طالب سفير نيكاراغوا لدى هولندا، كارلوس خوسيه أرغويلو غوميز، نيابة عن الجمهورية الواقعة في أميركا اللاتينية والمعروفة تاريخياً بمواقفها الداعمة للفلسطينيين، في نصّ الدعوى الواقعة في 43 صفحة، المحكمة، بإلزام السلطات الألمانية باتّخاذ إجراءات مؤقّتة، إلى حين استكمال المحاكمات في هذه القضيّة، ومن جملتها: تعليق المساعدات العسكرية لحكومة بنيامين نتنياهو بصورة فورية، والحصول على ضمانات من الجيش الإسرائيلي بعدم استخدام الأسلحة الألمانية الصنع بحوزته، بما يخالف القانون الدولي الإنساني، إلى جانب حثّ برلين على العدول عن قرارها وقف تمويل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين» (الأونروا).
وفي أولى جلسات المرافعة أمام أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، والتي انطلقت الإثنين، قال غوميز، إنه «لا يهمّ ما إذا كانت الوجهة المباشرة لقذائف المدفعية الموردة من قِبل ألمانيا لإسرائيل، هي دبابة تعمد إلى قصف مستشفى (في غزة) أو مخازن الجيش الإسرائيلي بغرض تجديدها». وبعد اتّهام ألمانيا، على رغم كونها أحد الأطراف الموقّعة على «اتفاقية منع الإبادة الجماعية»، بتجاهل ما وصفه بالعلامات «الواضحة» على انتهاكات إسرائيل تلك الاتفاقية في غزة، في ضوء قرار سابق صادر عن «محكمة العدل الدولية» في هذا الصدد، عبر استمرارها في تزويد تل أبيب بالأسلحة، شدّد غوميز على أن صدور هذه التدابير الطارئة المشار إليها يُعدّ أمراً ضرورياً وملحّاً لحماية حياة مئات آلاف الأشخاص في غزة، مضيفاً: «لا شكّ في أن ألمانيا كانت تدرك جيّداً، وتعلم جيّداً، الخطر الكبير المتمثّل في ارتكاب إبادة جماعية» في القطاع.
في المقابل، عمدت الحكومة الألمانية إلى إرسال وفد من المحامين الدوليين، يضمّ شخصيات قانونية من بريطانيا وإيطاليا، إلى مقرّ المحكمة في لاهاي للمشاركة في تقديم الردّ القانوني لفريق الدفاع في القضية. وفي هذا السياق، رفض الناطق باسم الخارجية الألمانية، سيباستيان فيشر، ما جاء في نص الدعوى، معلناً «(أنّنا) نرفض اتهامات نيكاراغوا»، بزعم أن حكومته لم تنتهك «اتفاقية منع الإبادة الجماعية» أو القانون الإنساني الدولي، في حين أكّدت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، أنها سترسل وفداً إلى الأراضي المحتلّة لحثّ القادة الإسرائيليين على الالتزام بمندرجات القانون الإنساني الدولي.

معركة قانونية ضدّ إسرائيل وحلفائها الدوليين
ومع انطلاق المداولات حول الدعوى المرفوعة من جانب ماناغوا ضدّ برلين، رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أنها تحمل مؤشرات إلى «توسع المعركة القانونية» في أروقة «محكمة العدل الدولية»، ضدّ إسرائيل وحلفائها الدوليين، وخصوصاً ألمانيا، التي تعدّ إحدى أهمّ الدول المصدّرة للسلاح إلى تل أبيب، معتبرة أن القضية المثارة أخيراً أمام المحكمة، «أوسع نطاقاً» بالمعنى القانوني، بالقياس مع تلك المثارة من جانب جنوب أفريقيا، ذلك أنها تتطرّق إلى انتهاكات إسرائيل لاتفاقيات جنيف، واتفاقيات دولية أخرى داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، ولا تتعامل حصراً مع انتهاكات سلطات الاحتلال المندرجة في إطار اتفاقية «منع الإبادة الجماعية»، كما ورد في نص الدعوى الجنوب أفريقية.
وعلى رغم محاولة بعض وسائل الإعلام الغربية التشويش على القضية، التي يأتي رفعها في سياق المواقف التاريخية لماناغوا الداعمة للحقّ الفلسطيني، من باب تسليط الضوء على المزاعم الغربية في شأن السجل الحقوقي لحكومة دانييل أورتيغا في نيكاراغوا، أشارت الصحيفة الأميركية إلى أن الدعوى «تطرح تساؤلات جديدة حول المسؤولية (القانونية والسياسية) المترتّبة على الدول، التي زوّدت إسرائيل بالأسلحة خلال الحرب على غزة».
القضية المثارة أمام المحكمة من جانب نيكاراغوا، «أوسع نطاقاً» بالمعنى القانوني، بالقياس مع تلك المثارة من جانب جنوب أفريقيا

ونقلت الصحيفة، عن مصادر قانونية، قولها إن «ألمانيا تشكّل هدفاً أكثر سهولة لتلك الدعوى، بالمقارنة مع الولايات المتحدة، ذلك أن الأولى قد أقرّت بالاعتراف بالولاية القضائية الكاملة (الإلزامية) للأحكام الصادرة عن محكمة العدل الدولية، في حين أن الثانية ترفض الاعتراف بالولاية القضائية للمحكمة (وبالتالي ترفض الالتزام بقراراتها)، إلّا في الحالات التي تمنح فيها واشنطن موافقتها الصريحة على هذه الولاية». وأضافت أن موقف الحكومة الألمانية ضدّ إسرائيل، قد أصبح «أكثر تشدّداً» منذ شروع حكومة نيكاراغوا، في شباط الماضي، في مقاضاة برلين أمام أرفع هيئات القضاء الدولي، متوقّفةً عند «وجود مخاوف متزايدة لدى برلين من أن غضب الرأي العام العالمي (الرافض لحرب غزة) قد أصبح قويّاً بشدّة، إلى حدّ بات يعزّز التصوّرات بأن الدعم الألماني غير المشروط (لإسرائيل)، والذي يُنظر إليه كواجب تاريخي في البلاد لأسباب تتعلّق بالمحرقة، كان يتسبّب بإلحاق أثر تدميري على مستوى العلاقات الخارجية للبلاد، ذات الأهمية البالغة». وتخلص الصحيفة الأميركية إلى أن الخسائر المتزايدة في صفوف المدنيين في غزة «دفعت بعض المسؤولين الألمان إلى التساؤل عمّا إذا كان دعم إسرائيل، قد أصبح مبالغاً فيه، وأبعد من اللازم».
ويشير محلّلون غربيون، من جهتهم، إلى أن النشاط الكبير والمكثّف الذي عرفته «العدل الدولية»، في الآونة الأخيرة، أعاد تسليط الضوء على دورها في وضع حدّ للنزاعات الدولية، وخصوصاً أن هذا النشاط قد ترافق مع إخفاق الأطراف الدولية والإقليمية المعنية، وكذلك الهيئات الأممية الأخرى، وفي مقدّمها مجلس الأمن الدولي، في وقف الحرب في غزة. وفي هذا الصدد، أوضح برايان فينوكين، وهو أحد كبار المستشارين في «مجموعة الأزمات الدولية»، أن «محكمة العدل الدولية لن تنهي الحرب في غزة، لكنها تبقى أداة دبلوماسية قابلة للاستخدام على مستوى السياسات الخارجية للدول، من أجل ممارسة ضغوط إضافية على إسرائيل». وبحسب فينوكين، فإنّه، وبالمعنى المتقدم، ستفضي دعوى نيكاراغوا «إلى ممارسة المزيد من الضغط على ألمانيا» لوقف دعم إسرائيل.