أعادت واقعة «المشاحنة الهاتفية» الأخيرة بين الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، تسليط الضوء على التباينات بين الحليفين، المتصلة منها بحرب غزة، ولا سيما أن الأول تجاهل الإشارة خلال المكالمة إلى لازمة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». فالمواقف الصادرة عن بايدن، في معرض الاتصال الاحتجاجي على مجزرة دير البلح، بلغت حدّتها مستويات غير مسبوقة، لامست حدّ التلويح بوقف الدعم العسكري عن إسرائيل، ودعوتها إلى «وقف فوري لإطلاق النار»، فضلاً عن التحذير من أن سياسة الولايات المتحدة المستقبلية تجاه غزة «ستتحدّد وفقاً لتقييمنا للإجراء الفوري الذي ستتّخذه إسرائيل» في شأن الخطوات المطلوبة أميركيّاً، وهي مواقف عاد وكرّرها وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، الذي هدّد بإجراء «تغيير في سياستنا حيال غزة»، في حال واصلت حكومة نتنياهو تجاهل هواجس بلاده.
واقعة «المشاحنة الهاتفية»: استجابة إسرائيلية ملتبسة
سارعت حكومة نتنياهو إلى الإعلان عن فتح معبر إيريز، وميناء أسدود، شمالي القطاع، «بصورة مؤقتة» لإدخال المساعدات إلى غزة، نزولاً عند الرغبة الأميركية. ومع ذلك، حاول نتنياهو ترميم «انكساره» أمام بايدن، في تصريحات أدلى بها خلال اجتماع في القدس رعته منظمة «آيباك»، وضمّه إلى عدد من المشرّعين الجمهوريين، جدّد فيها معارضته مقاربة الإدارة الأميركية الحالية في شأن «حل الدولتين، والذي تعارضه الغالبية الساحقة من الإسرائيليين»، معتبراً أن «هناك محاولة لإجبارنا على إقامة دولة فلسطينية ستكون ملاذاً آخر للإرهاب، على غرار حكومة حماس في غزة».
وفي هذا الجانب، توضح صحيفة «نيويورك تايمز» أن انتقادات بايدن لنتنياهو كان لها «تأثير ملتبس» على الأخير، ولا سيما أن الرجل يجد نفسه بين فريق داعم له يحثّه على مواصلة الحرب ومقاومة الضغوط الدولية لوقفها بدعوى أنها «مصلحة قومية إسرائيلية»؛ وآخر معارض يتّهمه بـ»تغليب حسابات سياسية داخلية ضيقة»، على حساب الاستجابة لمطالب ذوي الأسرى الإسرائيليين بإبرام صفقة تبادل مع «حماس». ووفق الصحيفة، فإن نهج رئيس الحكومة الإسرائيلية حيال حرب غزة «يحدوه التردّد، حيث يبدو أكثر ميلاً إلى إبقاء جميع الخيارات مفتوحة أمامه، من خلال سعيه إلى تأخير القرارات لأطول وقت ممكن»، لافتةً إلى أن الاستراتيجية المشار إليها «باتت تحت مجهر المساءلة (الدولية) على نحو أكبر، بسبب حجم المخاطر المصاحبة لها، وخصوصاً ما يتعلّق منها بتحذيرات الخبراء من خطر مجاعة يلوح في الأفق في غزة، واتهامات لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية هناك»، فيما «أخذ الجدل في شأن نوايا نتنياهو طابعاً أكثر حدّة واحتداماً، بسبب الغارة الإسرائيلية التي أسفرت عن مقتل سبعة من عمال الإغاثة».
عاد نتنياهو إلى اتّباع قواعد اللعبة الحقيقية المألوفة لديه، والتي تقوم على تفادي اتّخاذ أيّ قرارات


من جهته، يقول المحلّل في «منتدى السياسة الإسرائيلية» للبحوث والدراسات، مايكل كوبلو، إن رئيس الحكومة «عاد إلى اتّباع قواعد اللعبة الحقيقية المألوفة لديه، والتي تقوم على تفادي اتّخاذ أيّ قرارات»، لافتاً إلى أنه «لا يريد إجراء أيّ انتخابات، أو اتّخاذ القرارات التي من شأنها أن تدفع في هذا الاتجاه»، مع تحذيره من أن «إسرائيل لا تستطيع المضي قدماً في حربها (على غزة) رغم أنف الولايات المتحدة». بدورها، تؤكد المحلّلة السياسية الإسرائيلية، داليا شندلين، أن نتنياهو ليس في عجلة من أمره للسيطرة على مدينة رفح، لأن الخطوة ستقرّبه من اتّخاذ القرار بإنهاء الحرب، مشيرة إلى أنه «يحتاج إلى أكبر وقت ممكن حتى يتمكّن جيشه من مواصلة حملته لشلّ قدرات حماس (التنظيمية والعسكرية)، وهو يريد أن تستمر الحرب، لأنه بذلك، سيتمكّن من الإبقاء على ائتلافه الحكومي متماسكاً، وتأخير أيّ قرار في شأن تسليم السلطة في غزة إلى أيّ جهة أخرى». وفي السياق نفسه، يحذّر محلّلون من أن الاستراتيجية التي يتبعها نتنياهو، يمكن أن تأتي بنتائج عكسية بسهولة، وتحديداً لناحية تعرّض إسرائيل لعمليات انتقامية أكبر من حزب الله وإيران، الأمر الذي قد يؤدي إلى تورّطها في عمليات عسكرية أوسع. ومن بين هؤلاء، كوبلو، الذي يقول إن «العديد من العقبات التي تعترض أيّ طريق للخروج، تحتاج إلى إزالتها في وقت واحد، وليس بطريقة مجزّأة».

هل تبارح أميركا ازدواجيتها؟
حملت المواقف المستجدّة الصادرة عن الإدارة الأميركية التباسات لا تقلّ شأناً عن تلك المحيطة بردود الفعل الإسرائيلية عقب مكالمة بايدن - نتنياهو. وعلى رغم غياب مؤشرات جدية حول نيّة بايدن قطع المساعدات العسكرية عن إسرائيل، فقد كشف مسؤولون أميركيون، لـ»نيويورك تايمز»، أن الرئيس تمكّن من إقناع الجانب الإسرائيلي بـ»الموافقة على إعطاء التزامات إضافية، تشمل وضع المزيد من الضوابط للحدّ من الخسائر في صفوف المدنيين، إضافة إلى تسهيل دور وتعزيز صلاحيات مفاوضيه المشاركين في المباحثات (غير المباشرة مع حماس)، بما يمكّنهم من دون تأخير من إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار المؤقت مقابل إطلاق سراح الرهائن». وكشفت الصحيفة أن «حلفاء إسرائيل الدوليين، بمن فيهم الولايات المتحدة، مارسوا في الآونة الأخيرة ضغوطاً على نتنياهو بهدف حثّه على التأسيس لحالة من الاستقرار في غزة، عبر نقل السلطات هناك إلى السلطة الفلسطينية، وهي خطوة يأمل المسؤولون الأميركيون في أن تكون البداية لانطلاق الجهود من أجل إقامة دولة فلسطينية». أيضاً، استعرضت هواجس الولايات المتحدة إزاء تبعات استمرار الحرب سواء على «مستقبل تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والسعودية، أو لناحية إمكانية نشوب احتجاجات واضطرابات في الدول العربية المتحالفة معها، مثل الأردن»، فضلاً عمّا بات ينجم عنها من «اختلالات على مستوى الشرعية الدولية لإسرائيل»، ومن «(مخاطر) تطوّر الحرب إلى صراع إقليمي».
بدورها، كشفت «وول ستريت جورنال» أن ضغوط بايدن صبّت في اتّجاه دفع نتنياهو «إلى التوصل إلى تسوية مع حماس» تتيح عودة الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة. وفي الاتجاه عينه، أوجزت شبكة «سي إن بي سي» الدوافع الكامنة خلف تغيّر لهجة الرئيس الأميركي تجاه إسرائيل، موضحة أن أولها يتّصل بمقتل عمال الإغاثة في الغارة الإسرائيلية على دير البلح، وثانيها يتعلّق بمناشدة عقيلة الرئيس الأميركي، جيل بايدن، زوجها باستمرار وقف الحرب، فيما يتمحور ثالثها حول الحالة الاحتجاجية المتنامية ضدّ الرئيس لدى مواطنيه من أبناء الجالية المسلمة.
إزاء ذلك، يؤكد الخبير في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني في جامعة ماريلاند، شبي تلحمي، غياب أيّ تغيير حقيقي في السياسة الأميركية على المديَين المنظور والبعيد، موضحاً أن «بايدن لم يذهب بعيداً في مقارعة إسرائيل»، ومشدّداً على أن «تل أبيب اكتسبت المزيد من الجرأة بسبب استعداد الولايات المتحدة لتزويدها بمزيد من الأسلحة، وإحجامها في الوقت نفسه عن إدانة إسرائيل بقوّة أكبر». ورأى تلحمي أن بايدن «قدّم شيكاً على بياض لحكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة»، شارحاً أنه «عندما لا تكون هناك مساءلة، أو عواقب تتحمّلها الحكومة الإسرائيلية جرّاء أفعالها، فما هو الحافز الذي يدفعها إلى عدم القيام بما تفعله في غزة؟». هذه النظرة التشاؤمية لتلحمي، يشاطره إيّاها مسؤولون أميركيون سابقون، من بينهم بين رودس، النائب السابق لمستشار الأمن القومي خلال عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، الذي قال إن «الحكومة الأميركية لا تزال تستمرّ في دعمها لسياسات إسرائيل عبر تزويدها بقنابل وذخائر زنتها ألفا رطل»، محذّراً من أنه «طالما أنه ليست هناك عواقب جوهرية لتلك السياسات، فإن الغضب لن يفعل شيئاً، ولا سيما أنه بات من الواضح أن بيبي لا يكترث لما تقوله الولايات المتحدة، بل يكترث لما تفعله على أرض الواقع». وهو الموقف نفسه الذي تبنّاه جون فافريو، معدّ الخطابات للرئيس أوباما، إذ اعتبر أن «إعراب بايدن عن غضبه (حيال نتنياهو) في الكواليس، لا يحظى بالصدقية والتقدير، في وقت يرفض فيه الرئيس استخدام نفوذه لمنع الجيش الإسرائيلي من قتل وتجويع الأبرياء في غزة»، مضيفاً أن هذا النهج يجعل منه رئيساً «ضعيفاً».