عمّقت الضربة الإسرائيلية التي استهدفت موكباً إغاثياً تابعاً لمنظمة «المطبخ المركزي العالمي» في مدينة دير البلح في قطاع غزة، من حجم المآزق الداخلية والخارجية التي باتت تحيط برئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو. فالغارة، التي أسفرت عن مقتل 7 (معظمهم أجانب) من أفراد الطاقم الإغاثي، أثارت ردود فعل غاضبة، سواء من المنظمة نفسها التي اتّهمت السلطات الإسرائيلية باستخدام الغذاء كـ»سلاح حرب»، أو من جانب حكومات الدول التي لاقى مواطنوها حتفهم في الغارة، كبولندا وأستراليا وكندا.
انتقادات غربية متزايدة لنتنياهو
لعلّ المواقف الأكثر حدّة، جاءت من لندن وواشنطن، إذ حذّرت الأولى، الواقعة أصلاً تحت ضغوط التيارات والنخب السياسية المناهضة للعدوان على غزة، حكومة بنيامين نتنياهو من أنها تعكف على دراسة خيارات عدّة، للردّ على الغارة، التي قُتل فيها ثلاثة بريطانيين، من بينها إعلان إسرائيل «دولة منتهكة للقانون الدولي»؛ في حين أعرب الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن «غضبه» جرّاء غارة دير البلح، متّهماً إسرائيل بـ»عدم القيام بما يكفي لحماية موظفي الإغاثة» العاملين في غزة.
إزاء ذلك، رأى رئيس البرنامج الفلسطيني الإسرائيلي في جامعة «هارفارد»، يوسف منيّر، أن «مصطلح الغضب الذي استخدمه بايدن، يمكن التوقّف عنده، لاعتبارَين: أولهما كونه التعبير الأكثر حدّة الصادر عنه (في مواقفه المندّدة بإسرائيل في العادة)؛ وثانيهما كونه جاء للتنديد بغارة طاولت عمال إغاثة غربيين». مع هذا، استبعد منيّر أن تحمل مواقف بايدن الأخيرة تغييراً في سياسته الداعمة لإسرائيل، فيما يعتقد محلّلون غربيون أن الرئيس الأميركي حاول، خلال الأسابيع الأخيرة، الفصل بين حملة الضغوط التي يشنّها على إسرائيل، وسلطته وصلاحياته الرئاسية، إذا ما قرّر استخدامها، وتحديداً في ما يخص الحدّ من إمداد تل أبيب بالسلاح. من هنا، يستبعد السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل، دانييل كيرتزير، أن يعمد بايدن إلى «ترجمة غضبه إلى ردّ فعل سياسي قوّي»، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن «الهجوم على طاقم الإغاثة، وعلى الرغم من الاعتذارات الإسرائيلية، سيزيد الضغط بشكل كبير على مقدّمي المساعدات، وبالتالي يؤدّي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية».
«المستقبل السياسي لنتنياهو أصبح على المحكّ»، بعدما باتت «اتّجاهات متعارضة تتنازع الرجل»


من جهتها، تشير صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن «المستقبل السياسي لنتنياهو أصبح على المحكّ»، بعدما باتت «اتّجاهات متعارضة تتنازع الرجل، سواء من قِبَل شركائه في الائتلاف الحكومي والرأي العام الداخلي في إسرائيل، أو حتى حلفائه في الخارج، وذلك بسبب مُضيّه في الحرب على غزة، والحصيلة البشرية والتدميرية الباهظة التي تخلّفها». وتتوقّف أستاذة العلوم السياسية المقيمة في تل أبيب، داليا شيندلين، بدورها، عند خروج آلاف الإسرائيليين، ومن بينهم ذوو الأسرى لدى حركة «حماس»، للمطالبة بإسقاط نتنياهو، في موازاة تفاقم الانقسامات السياسية داخل حكومته، وإصراره على مواصلة الحرب في القطاع حتى تحقيق «النصر الكامل»، مبيّنة أن رئيس الحكومة «يواجه كومة من الضغوط»، وأنه «يستجيب لتلك الضغوط عبر الردّ بأكبر قدر ممكن من التحدّي وبأقلّ قدر من القرارات الحاسمة»، في إشارة إلى محاولته استيعاب كلّ المواقف المتعارضة داخلياً وخارجياً، والتكيّف معها.

وقف صادرات الأسلحة: «المهمة المستحيلة»؟
«هل ستقود الغارة (على دير البلح)، حتى وإنْ كانت ناجمة عن خطأ مأساوي (وهو التعبير الذي استخدمه نتنياهو لدى إقراره بارتكاب قواته المجزرة)، إلى وضع شروط على توريد الأسلحة إلى إسرائيل؟»؛ سؤال تطرحه «نيويورك تايمز»، قائلة، في محاولتها الإجابة، إن «البيت الأبيض يواصل تمنّعه عن إعطاء أيّ إشارات حول ما إذا كانت حالة الغضب التي اعترت بايدن ستؤسّس لقطيعة مع نتنياهو»، لافتةً إلى أن «بايدن، الذي لطالما كان تعامله مع رئيس الحكومة الإسرائيلية مشوباً بالتوتّر، اقتصرت ردود فعله عقب المجزرة حتى الآن على إطلاق تصريحات أكثر حدّة تجاه إسرائيل». وتنقل عن مساعدين لبايدن، قولهم إن الأخير يمتنع باستمرار عن إعلان القطيعة العلنية مع نتنياهو، بدعوى أنها «لن تؤدّي إلا إلى زيادة صعوبة التعامل معه»، في إشارة إلى خشيته من فقدان تأثيره على الداخل الإسرائيلي، مضيفة أنه «يجد نفسه محاصراً داخل صندوق»، بين الضغوط المتزايدة عليه من الجناح التقدّمي في حزبه الديموقراطي الرافض للحرب على غزة من جهة، وعدم رغبته في أن يُنظر إليه على أنه يقوّض قدرات إسرائيل في الدفاع عن نفسها من جهة أخرى.
وتلفت الصحيفة إلى الآلية التي تتّبعها الولايات المتحدة لفرض شروط على صادراتها من السلاح، والتي عادةً ما تكون مقبولة من حلفائها الخارجيين، (كأوكرانيا، على سبيل المثال، الملزمة بمراعاة تلك الشروط)، مستدركةً بأن «إسرائيل كانت على الدوام مستثناة من الالتزام بشروط معينة على استخدامها للذخائر والأسلحة الأميركية الصنع». وتستعرض الانقسامات الحاصلة داخل الحزب الديموقراطي في شأن الموقف من هذه القضية؛ ذلك أن شخصيات على غرار زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ، السيناتور تشاك شومر، الذي، وعلى رغم إيغاله في التحريض على حكومة نتنياهو قبل أسابيع قليلة، تجنّب الدعوة إلى فرض قيود على الأسلحة المصدّرة إلى الجيش الإسرائيلي، خلافاً لشخصيات أخرى، من بينها السيناتور عن ولاية ميريلاند، كريس فان هولين، الذي أعرب عن أمله في أن تكون واقعة مقتل فريق الإغاثة «هي اللحظة التي يبادر فيها الرئيس إلى تغيير نهجه»، مذكّراً بأن «نتنياهو لطالما تجاهل طلبات الرئيس ومناشداته، ومع ذلك تقوم بلادنا بإرسال قنابل زنة 2000 رطل لحساب قواته من دون أيّ قيود على كيفية استخدامها».
وفي ضوء صعوبة تحقّق «سيناريو» وقف تزويد إسرائيل بالسلاح الأميركي، تشير الصحيفة إلى أن «هناك خطوات أخرى يمكن بايدن أن يطالب بها» الجانب الإسرائيلي، على غرار «حراسة قوافل المساعدات، أو أن تظلّ القوات العسكرية في المناطق القريبة (من معابر تمرير المساعدات الإنسانية)، على اتصال مستمرّ مع الجهات الإغاثية المولجة توزيع تلك المساعدات»، كاشفة أن «اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، هما كريس كونز عن ولاية ديلاوير، وريتشارد بلومنثال عن ولاية كونيتيكت، كانا تقدّما إلى نتنياهو بطلبات مماثلة في شباط الماضي». وتحمل الغارة على دير البلح، وفق الصحيفة، «دلالات على أن تلك الإشكالات بقيت على حالها، من دون التوصل إلى أيّ حلول في شأنها على الإطلاق»، مشيرة إلى أن هذه ليست المرة الأولى، منذ أحداث السابع من أكتوبر، التي تصل فيها المساعي التي تبذلها واشنطن مع نتنياهو إلى طريق مسدود، على رغم أن حرص الجانبَين على إظهار «توافقهما العلني على تحقيق أهداف معينة من الحرب»، لم يحجب حقيقة وجود «خلافات عميقة» بينهما.