تشير غالبية الوثائق التاريخية إلى أن غزة مسكونة منذ الألف الثالث قبل الميلاد، على نحو ما جاء في رواية عالم الآثار الإنكليزي، فلندريس بتري، الذي قال إنها «بُنيت فوق التل المعروف بتل العجول». وتشير خريطة «مأدبا»، وهي فسيفساء أرضية من القرن السادس تصوّر الأرض المقدّسة، إلى غزة على أنها سابع أقدم مدينة في التاريخ. أما المؤرخ الفلسطيني، عارف العارف، فيقول في كتاب له صادر عام 1943 إن «المعنيين» هم أول من ارتادوا المدينة ليؤسّسوا فيها مركزاً يحملون إليه بضائعهم، قبل أن يضيف أن «العويين» و«العناقيين»، الذين يقال إنهم الفلسطينيون القدماء، وقد ورد ذكرهم في «العهد القديم» على أنهم أول من استوطنوا غزة، جاؤوا بعد «المعنيين»، ثم تلاهم «الديانيون»، أحفاد النبي إبراهيم الخليل، ومن ثم الكنعانيون الذين كانوا أول من عرف زراعة الزيتون على وجه الأرض، وكذا صناعة النسيج والفخار والتعدين، الأمر الذي شكّل بنية اجتماعية - اقتصادية كان لا بدّ لها من أن تعكس نظيرة فوقية لها، تمثّلت في اختراع الحروف الهجائية وسنّ الشرائع والقوانين، حتى باتت غزة «حاضرة في الشرق الذي كان يحمل حينها لواء الحضارة العالمي».ويقول سابيوس القيصري، الذي عاش في القرن الرابع، ويُوصَف بأنه «أبو التاريخ الكنسي»، إن «كلمة غزة تعني القوة والمنعة والعزة». أما ياقوت الحموي، فيذكر أن غزة كانت اسم زوجة «صور» الذي بنى مدينة صور الفينيقية وسُميت باسمه. وفي العصر الإسلامي، أُطلق عليها اسم «غزة هاشم» تيمّناً باسم جدّ النبي، هاشم بن عبد المناف، الذي دُفن فيها. ولربما كان في ما سبق تفسير للحروب الكثيرة التي دارت رحاها في المدينة، وحولها، وأظهرت الأخيرة فيها أنها عصية على الزوال.
هذا العصيان كان مثار استفزاز العديد من الغزاة، بدءاً بالإسكندر الأكبر الذي حاول اجتياح المدينة ثلاث مرات انطلاقاً من جباليا، ولم تمكّنه منهجية القتل والتدمير التي اعتمدها من السيطرة عليها، وصولاً إلى ونستون تشرشل الذي أمر قائد قواته في غزة، أريشبالد مدري، يوم 17 نيسان 1917، عندما كان الأول وزيراً للذخائر، باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد شعب غزة وحاميتها. وعلى مدى أيام ثلاثة، كانت الغازات السامة تفتك بكل شيء، الأرض والبشر والحجر، وفي ما بعد سيذكر تشرشل في مذكّراته، تلك الأحداث، ويصف القنابل بـ«عشيقاته» القادرات على إبادة الشعوب والقبائل «غير المتحضّرة» التي لا تنطبق عليها قوانين الحرب. ولم تكن مصادفة أن يقول وزير الحرب الإسرائيلي، يوآف غالانت، بعد أيام من «طوفان الأقصى»، إن جيشه يحارب «حيوانات بشرية»، فهذه «المزقة» من تلك «القماشة».
لم يبقَ فاتح، أو غازٍ، إلا ونازلته، فإما أنه صرعها، وذاك يكون لوقت قصير، و إما تكون هي التي صرعته


بعد نكبة 1948، أضحت غزة تحت الإدارة المصرية بعد أن امتلأت بمخيمات اللاجئين من القدس والجليل ونابلس وصفد وحيفا، الأمر الذي جعل منها «مصهرة» لآمال الفلسطينيين وآلامهم. وفي عام 1967، اجتاحها الجيش الإسرائيلي شأن ما فعله في الضفة الغربية والجولان وسيناء. وعندما ذهبت قاهرة السادات نحو مطارحات «كامب ديفيد» عام 1977، ورد في ملاحقها «الدعوة إلى إقامة حكم ذاتي في غزة مدته 5 أعوام» على أن تتم مراجعة التجربة في نهاية تلك المدة، إلا أن ذلك لم يحصل، وما جرى أن المدينة شهدت عام 1978 انتفاضة عارمة مهّدت لانتفاضة عام 1987 التي طاولت الأراضي الفلسطينية المحتلة برمّتها.
ما بعد اتفاق «أوسلو» 1993، كانت المناخات التي شهدتها المدينة، وأظهرت افتراقاً عن السياقات التي قاد إليها الاتفاق، في صلب المراجعة التي أجرتها سلطات الاحتلال، مقالة ومن خلالها جاء قرارها بمغادرة القطاع عام 2005. ومع ذهاب السلطة الفلسطينية في اتجاه تدجين القوى والتيارات العاملة فيها، كان من الواضح أن الأمور تسير نحو الانفجار الذي حصل بعد نحو عام في أعقاب الانتخابات التي أجرتها السلطة عام 2006، والتي كرّست شعبية «حماس» بواقع 74 مقعداً من أصل 132 هم كامل أعضاء البرلمان الفلسطيني. وعندما أعلن إسماعيل هنية تشكيل حكومته في آذار من ذلك العام، كان واضحاً أن الأمور لم تستقم لتل أبيب، أولاً، ولا لديموقراطية الغرب برمّته، ثانياً، ليعلن الرئيس محمود عباس في حزيران 2007، عن إقالة حكومة هنية، في فعل كانت دلالاته تشير بوضوح إلى «السبابة» الغربية التي ارتفعت محذّرة. ومن حيث النتيجة، كان «أوسلو» نقطة افتراق بين الجغرافيتين اللتين أشار إليهما الاتفاق الذي عُرف بـ«غزة - أريحا أولاً»، ثم قادت النقطة إياها إلى حروب غزة 2008 - 2012 - 2014 - 2018 - 2021، وصولاً إلى «الطوفان» الذي طاول الجذور هذه المرة.
بعد خمسة أشهر من القتال الذي رمى الغرب فيه بثقله كلّه على الضفة الأخرى في مواجهة غزة، نشر المصوّر تسفرير آبايوف صورة لجنديات إسرائيليات لحظة أخذهن «سيلفي» أمام كم رهيب من الحطام، في ما يبدو أنه لحي سكني سُحقت مبانيه عن بكرة أبيها. والصورة لا تشير إلى الموقع الذي التُقطت فيه، وكأنها أرادت القول: «وما أهمية المكان طالما أن غزة كلّها باتت تصلح خلفية لتلك الصورة؟». والمؤكد هنا أن الرمزية في المشهد توحي بأن قدرة الغرب على تعميم الخراب لا حدود لها، وأنها ستظلّ مدعاة لاحتفالية «الجسد» الغربي كما أظهرته حركة أيدي الجنديات ببزّاتهن الفارهة الخارجة من فخر المعامل التركية. والمؤكد أيضاً هو أن الرمزية إياها ترمي إلى القول بقدرة آلة الغرب الوحشية على التدمير والسطو على الأمكنة. ولربما كانت التعليقات التي ظهرت بعشرات الآلاف على الصورة المنشورة على «إنستغرام»، كفيلة بإبراز كل ذلك، وكفيلة أيضاً بالقول إن الأجيال المؤمنة بـ«تفوّق» الغرب سوف تضع تعليقاتها تلك ثم تمضي، وجلّ ما ستفعله هو تفعيل وضعية «الانتظار» الحياتية، في انتظار صور جديدة.
لكنّ تاريخ غزة فيه إشارات لا يخطئها حساب، إلى قدرتها على الصمود في مواجهة النوائب بجميع أنواعها، والغزو بشتى ألوانه، حتى إنه لم يبقَ فاتح، أو غازٍ، إلا ونازلته. فإما أن يكون قد صرعها، وذاك يكون لوقت قصير، وإما تكون هي التي صرعته، وهي الحالة التي كانت غالبة على مرّ العصور.