عندما تأبّط بنيامين نتنياهو في 23 أكتوبر، الآيات التوراتية اليهودية، واستخرج منها خطاب الدعوة للإبادة، فعل ذلك لأنه أراد أن يضفي على حملته العسكرية ضد قطاع غزة «صفة القداسة». قبلها، رمى في الفضاء السياسي مصطلحات عدة، «حرب الاستقلال الثانية»، «حرب الوجود»، «هولوكوست»، «المذبحة» و«معركة النور». أثارت تسمية الاحتلال الحرب على غزة بـ«السيوف الحديدية»، نقاشاً كبيراً حول معنى ودلالة هذه التسمية، إذ بدت بلا رمزية، بخلاف التسميات السابقة للحروب التي شنّها العدوّ على القطاع. فوصف البعض التسمية بأنها سرقة غير موفّقة، لكون العرب هم من اشتهروا باستخدام السيوف. حاول نتنياهو تغيير التسمية، لكنه لم يفلح. فقد أراد أن تكون العملية، بالشكل وبالمضمون، تصبّ في خانة الصندوق الانتخابي، في معرض استقطابه لـ«جمهور» متعطش هو بدوره للدم والقتل والإبادة.
استعان «بيبي» بقصة توراتية عن التدمير الكامل لشعب «عماليق»، فأعطى توجيهاته للإسرائيليين، بمن فيهم الجنود في الميدان، مقتبساً من «سفر التثنية» (17:25): «تذكّر ما فعله بك عماليق» مضيفاً: «نتذكّر ونقاتل».
أيضاً، في 25 أكتوبر، وخلال خطاب متلفز، كرّر نتنياهو تغليف موقفه بصبغة دينية، لكن هذه المرة بتقديم نفسه كقادر على تحقيق «نبوءة اشعياء»، فكرّر العبارة التي تقول «نحن أبناء النور، بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام» والتي جرى اقتباسها من العبارات في الآية الأولى والثانية من سفر «اشعياء» في الإصحاح 9. وأضاف: «سنحقق نبوءة اشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سبباً في تكريم شعبكم، سنقاتل معاً وسنحقق النصر».
الربط بين «العماليق» و«حماس» في الخطاب الأول، واعتبار إسرائيل «أهل النور» الذين يجب أن ينتصروا على «أهل الظلام»، والمقصود بهم أهل غزة في الاقتباس الثاني، كان بمثابة تفويض للجيش والوحدات العسكرية، على اختلافها، للقيام بعملية قصف وإحداث تدمير هائل بعيداً عمّا يسمّى بنك الأهداف.
طبّق جيش العدوّ الإسرائيلي هدفه في تنفيذ الإبادة الجماعية، عند قيام طيرانه الحربي بقصف المربعات السكنية في الأحياء بقنابل ذكية، يصل وزن متفجراتها إلى أكثر من نصف طن، قادرة على إحداث تدمير بقطر يصل إلى نحو 400 متر مربع تقريباً، كذلك استهداف الأبنية والأبراج السكنية العالية. في السياق، كان إنشاء حزام ناري يعمل على عزل المناطق والأحياء بعضها عن بعض، لغاية منع تقديم خدمات الإغاثة للجرحى، وترك الأحياء الذين كانوا تحت الركام يموتون.
أثناء عمليات الاقتحام والتوغل البري التي حصلت في المرحلة الثانية، كان هناك قرار عند الجنود بإطلاق النار على كل شخص يتحرك أمامهم، مدني أو عسكري، وقد أدّى ذلك في إحدى المرات إلى قتل 3 جنود إسرائيليين أسرى، كانوا لدى المقاومة، وتمكنوا ربّما من الفرار من آسريهم، وبينما كانوا يسيرون نحو الجنود للتعرّف عليهم، عمدوا إلى قتلهم. هذا القتل العشوائي يفسّر مخاطبة نتنياهو للجنود: «تذكّر ما فعله بك عماليق».
الاستناد إلى القتل وإضفاء صبغة دينية عليه، بالتأكيد له أبعاده الداخلية، التي لها علاقة بشخصية نتنياهو نفسه. فأكثر الأوصاف محبّةً إلى قلبه «الملك» و«القيصر» التي يسرّ بها عندما ينعته بها أنصاره.
أراد الرجل، من خلال حرب غزة، إضافة ألقاب جديدة له. وعندما قال لجنوده: «كلّكم من نسل سلسلة الأبطال الذين لم يتردّدوا ولم يتراجعوا - يهوشوع بن نون، دبورة النبية، الملك داود، يهودا المكابي، بار كوخبا، جوزيف ترومبلدور، المقاتلون السريّون، الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن. لقد أمسكوا بسيف درع إسرائيل إلى الأبد، وأنتم تسيرون على خطاهم»، ما كان يوجّه هذا الكلام تحديداً لجنده، إنّما كان يخاطب نفسه أيضاً.
فتذكير نتنياهو بـ«سفر اشعياء» والذي يتضمّن عدة نبوءات، منها السبي إلى بابل، وإعادة بناء «الهيكل» في القدس، وبالتالي نهاية الزمان. إضافة إلى ما اقتبسه من سفر المزامير: «تُمَنْطِقُنِي بِقُوَّةٍ لِلْقِتَالِ. تَصْرَعُ تَحْتِي الْقَائِمِينَ عَلَيَّ» (مزمور 39:18)، مع ما يقوله من شعارات ذات سقف مرتفع، يتعذّر تحقيقها باعتراف أقرب المقرّبين إليه. كل ذلك وغيره ما هو إلا تعبير عن حالة مَرَضية لشخص يشرب نخب الدم بتحريض ديني.