«إن صلاتي ليست ندبة شحاذ، ولا اعترافات عاشق، ولا حسابات متواضعة لتاجر مقايضة صغير: وهبتك فاعطِني. إن صلاتي هي تقرير من جندي إلى قائده: هذا ما فعلتُه اليوم... هكذا حاربت لكي أنقذ قطاعي الخاص طوال المعركة، هذه هي المعوقات التي واجهتُها... وهكذا أفكر استعداداً لمعركة الغد»نيكوس كازانتزاكيس، منقذو الآلهة

تحاول، كغيرك ممّن كُتب عليهم العيش في منطقة تظلّ على قَرّها أدفأ علينا من بلاد «تموت من البرد حيتانها»، أن تتجنّب هَمّ التفكير، أن تلقي بنفسك في دائرة العطالة، أن تشغلها بكلّ ما لا يتطلّب جهداً ومخاطرة، أن تنأى بها عن «شرَك» الأفكار والتأمّل والحلم، أن تأخذ استراحة من «الجنون»، أن تنام في عسل «الاستقرار» الذي بشّرنا بـ«طول سلامة» من مخاطر «التغيير» وطلبه وتجشّم العناء للوصول إليه. لكن، في لحظة واحدة، وعلى حين غِرّة، تستفيق إلى أن «الغول» لا يزال رابضاً على بابك، وأن ثمّة داخل بيتك من لم يَذهل عن ذلك، ولم تبهته المأساة، ولم يعطّله الالتهاء المفرط بأحوال السلطة، ولم تشوّشه الدعوات الخرقاء إلى نبذ الحرب وإعلاء كلمة السياسة والتسليم بـ«نهائيّة الغول» في ديارنا، والالتفات إلى هموم التنوير والحداثة... تلك الحداثة نفسها التي تأخذ على عاتقها اليوم توزيعنا، بوصفنا شعوباً «بدائية ودنيئة»، على «حدائق حيوان أنثروبولوجية»، تُجرَّب فيها شتى صنوف المحاولات الرامية إلى إخراجنا، نحن «البرابرة»، من دائرة «عدم النضج» التي نقبع فيها.
ذلك ما فعلته بنا عملية «طوفان الأقصى»، حينما جاءت لتُنبّه العدو إلى أن غزة لم تبدّل جلدها، ولم يؤكل عقلها، ولم تؤخذ، خلافاً لما راج في السنوات الأخيرة عن إرهاصات تحوّلها إلى «رام الله» ثانية في خاصرة فلسطين، بطروحات إدغام نفسها في «المزاج الدولي»، وتقديم نموذج يتماهى والمعايير التي يضعها «مجتمع دولي» يرى أن من «حقّه الإنساني»، لا أن يدير هذه «الغابة» المجاورة لـ«الفيلا» الصهيونية فحسب، بل وأن يملكها أيضاً بوصف «الحيوانات البشرية» المنتشرة فيها غير «إنسانية» بالقدر الذي «نحن» عليه. لقد أثبتت غزة، بضربة واحدة، لا للعدو - والحقّ يُقال - فقط، وإنّما أيضاً للصديق والمحبّ، أنها ترفض التحوّل إلى «نظام» مبطان همّه المكاسب، وشُغله الامتيازات، وأقصى طموحه الخروج إلى العالم بثياب «البارّ والمرضيّ عنه»، والساعي إلى الحصول على ثمن بخس من استقرار وازدهار مشروطَين، بالضرورة والحتمية، بتسكيت القضية وتمويتها. لقد أثبتت، أيضاً، أن «وحدة الساحات» الفلسطينية ليست مظهراً مخادعاً، ولا حيلة بصرية، ولا سلاحاً لفظياً يخفي في ما وراءه عدم توازن متزايداً وعجزاً عميقاً - كما تراءى للكثيرين منا جولةً بعد أخرى عقب معركة «سيف القدس» -، بل هي قاعدة عمل تربط بـ«الإكراه» مصير القطاع بمصير الضفة والقدس والداخل، وترتضي بموجبها غزة بأن تناوش وتضغط وتناور، وحتى أن تعود إلى الحرب قبل أن تكون قد التقطت أنفاسها من سابقتها، لا من أجل أن تشكّل احتياطيّاً للمعركة فحسب، إنّما أيضاً أن تكون هي عنوانها وقائدتها ومُوجّهة مسارها وحاسمة نهاياتها.
في المقابل، يقف الإسرائيليون، اليوم، مجدّداً، حائرين أمام هذه البقعة التي لطالما أملوا «كيّ وعيها»، قبل أن تبرهن لهم، مرّة بعد مرّة، أن وعيها المضني ذاك، إنّما هو ممّا يستعصي على ماكينة «الكيّ»، وأن رأسها أَيبس ورقبتها أشدّ ممّا خمّنه قادة إسرائيل لدى ارتئائهم حشْر تلك الكتلة السكانية في ما يشبه «معسكر تجميع» استلهموا فكرته من الإرث الاستعماري الأوروبي. هكذا، ظلّت غزة، منذ ما بعد النكبة، معضلة شديدة التعقيد بالنسبة إلى دولة الاحتلال، لم يفلح في حلحلتها حتى نزوع المكر لدى أرييل شارون، الذي أراد من خلال «خطّة الفصل» التي نُفّذت عام 2005، التخلّص من عبء السيطرة المباشرة على القطاع، وفي الوقت نفسه التوطئة لعملية «فكّ ارتباط» بين هذا الأخير وبين الضفة الغربية، تحت إغواء تحويل مناطق الغزيين إلى ما يشبه «هونغ كونغ» أو «هانوي» أو «سنغافورة»، وكأن تلك النماذج إنّما هي أشياء محايثة تحدث للناس بعيداً من أيّ سيرورات تاريخية.
تكاد ثيمة «الحمد لله» هي ما يوحّد سرديات الغزيين، إلى حدّ بات يمكن معه الحديث عن «لاهوت الصمود» الغزي


على أن شارون لم يلجأ إلى هذه الحيلة إلّا بعدما «تعلّم من التجربة أن المرء لا ينتصر بالسيف وحده»، كما قال إبّان مناقشة «خطّة الفصل» أمام «الكنيست» عام 2004. وهو درسٌ لا يبدو أنه حفر عميقاً في الوعي القيادي السائد في إسرائيل؛ إذ لا تزال الأخيرة تتصرّف على أساس أن أرجحيّتها العسكرية والتكنولوجية تتيح لها أن تجمح بأهدافها وطموحاتها إلى سقوف لا واقعية يغدو معها «فائض القوة» غير ذي فاعلية البتّة. صحيح أن قادة الحرب لا يفتأون يصدّعون رؤوسنا، يومياً، بالحديث عن مخطّطات سحق المقاومة، وتهجير أهلها كرهاً أو طوعاً، ومحو ذِكر غزة وإقفال أمدها، إلّا أن ما يجري على الأرض، منذ السابع من أكتوبر، إنّما يمثّل مصداقاً حيّاً وبالغ الدلالة على «تراكم كبير للضعف»، ناجم عن «تراكم كبير (هو الآخر) للقوة»، بات «يحكم الأحداث في ما يشبه انقلاباً للتاريخ» (إن صحّت استعارة توصيف برتراند بادي للتحوّلات الحاصلة على مستوى العالم).
والواقع أن هذا الانقلاب لا يقتصر على قطاعٍ مُنح قاطنوه على مرّ سنوات طويلة سعراتهم الحرارية اليومية بالقطّارة في ما سمّاه دوف ويسغلاس (أحد أبرز مستشاري إيهود أولمرت) «الحمية الغذائية»، واتُّبعت بحقّهم على رؤوس الأشهاد استراتيجية «إبقاء الرأس فوق سطح الماء»، بل هو يتجلّى، بأوضح صوره وأجلّها أيضاً، لدى شريك غزة الأوّل في ملحمتها، اليمن، الذي ظلّ يُنظر إلى قدراته حتى الأمس القريب على أنها ظواهر صوتية، قبل أن تأتي «طوفان الأقصى» وتثبت أن في هذه البلاد «نعم ذخر الذاخرينا» لأيام الشدّة والكرب، وأن من يسمّون «الحوثيين» ازدراءً لهم، والذين ملأوا البرّ حتى ضاق عنهم، لا يتردّدون في ملء البحر أيضاً عندما تقع الواقعة؛ فـ«الحرب حرب وإحنا لها وأغمار كرب مهما تكون أهوالها»، كما يقول أبو الزوامل اليمنية، عيسى الليث. صحيحٌ أنه ليس لدى اليمنيين ما يخسرونه بعد حرب استمرّت ما ينوف على ثمانية أعوام عليهم، و«أتت على الأخضر واليابس» لديهم، إلّا أن الصحيح أيضاً أن فعلهم الأخير لم ينبثق من مجرّد «فزعة» عاطفية - على أهمية ما يختزنونه من عواطف أوّلية تجاه القضية الفلسطينية -، بل هو نتاج عمل متراكم أُسّس بنيانه على اعتقاد راسخ بأن فلسطين واليمن وسائر الأقطار المهمَّشة والمستغَلّة والمهيمَن عليها، إنّما هي كـ«الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد».
تداعٍ يبدو، في الحالة اليمنية، أقرب إلى دراما حماسية ممزوجة بملهاة سياسية، حتى لتحتار، لدى مشاهدتك إيّاه، في قدرة هذه الجماعة على الاستهزاء بـ«مركز التاريخ»، وإقلاق راحة «الإمبراطورية» بأدوات ظنّت هذه الأخيرة أنها طيّ يمينها على طول الخطّ. وعلى رغم أن جانباً من هذا الشعور يخالجك إزاء غزة أيضاً، إلّا أنه هنا يأتي ممزوجاً بطعم الدهشة من القدرة على تحمّل «تلك الأطلال الرهيبة، والأنقاض والخِرَق والرماد الحزين، وهؤلاء النسوة والأطفال المتراكمة جثثهم». لكن خلافاً لفولتير الذي تساءل مفجوعاً، في قصيدته الشهيرة عقب كارثة لشبونة عام 1755: «من قال للحزانى من سكان هذه الشواطئ المقفرة: لقد سقطتم ومتم بسلام، لقد دُمرت بيوتكم من أجل خير العالم؟!»، تكاد ثيمة «الحمد لله» هي ما يوحّد سرديات الغزيين، إلى حدّ بات يمكن معه الحديث عن «لاهوت الصمود» الغزي، والذي يستقي من النصوص الدينية ما يعين أصحابه على مواجهة النوازل بالصبر، وليس أيّ صبر، بل ذلك الذي تكون مادّته أمرّ في فم الإنسان من طعم القيمة إياها، على أمل أن يأتي أخيراً العام الذي فيه «يُغاث الناس» وفيه «يَعصرون».
ليس المقصود من ذلك، على أيّ حال، أسطرة أهل غزة، وإن كان ما يعيشه هؤلاء يحقّ له أن يستحيل أسطورة، ولكن ما العمل إذا كان القطاع يعلّمنا يومياً كيف يغدو الإنسان «سكراناً من دون خمر، وشبعاناً من دون طعام... ملكاً في عباءة متواضعة، كنزاً من ركام، بحراً بلا سواحل، يحوز مئات الأقمار ومئات السماوات ومئات الشموس» - كما يُنقل عن مولانا جلال الدين الرومي -، في عالم مستذئب لا يرحم ولا يترك منزلاً لرحمة السماء؟ على أن غزة تحتاج استراحة بالفعل، يتاح فيها لأبنائها لملمة شتاتهم، ورفع خرابهم، واستعادة حياتهم، والوصول إلى نقطة التوازن التي يمكن من بعدها التفكير في ما سيأتي والإعداد له. وهي استراحة يَجدر أن تترافق مع مراجعة شاملة، لا من أجل الوصول إلى «النضوج السياسي» وفق ما يطالب به دُعاة التطبيع، اليوم، من يسمّونهم «قادة الميليشيات»، بل بغرض المراكمة على الإنجازات ومعالجة أوجه القصور، سواء لدى حركة «حماس» نفسها، أو على مستوى «محور المقاومة» - ككلّ -، الذي، على رغم ما يرميه به مَن أصابهم «الربيع العربي» بمرض انعدام مساءلة النفس واضمحلال الحياء وامّحاء الحصافة، وعلى الرغم أيضاً ممّا بان فيه في خلال الجولة الأخيرة من اختلالات ومفارقات، أثبت أنه الوحيد الذي يعوَّل عليه في معركة التخلّص من «المستعمرة الاستيطانية» القائمة في فلسطين.
أمّا أولئك الذين لا يزالون يتعمّدون تكثير التناقضات، بل والإلحاح على كلّ منها - مهما تهافت منطقه - بوصفه هو «التناقض الرئيس» حصراً، والمِسطرة التي يمكن بها - لا بسواها - قياس الحق ومعرفة أهله، فإنما ديدنهم «التغاضي عن أفعال النفس والموسوعية حول ما يفعله الغير»، ونتاجُهم «الأشباح الغبية» كما سمّاها ريجيس دوبريه. والأشباح تلك، والتي لا ينتج إلّاها أيضاً من لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون، فتُوقعهم جهالاتهم في دائرة الاعتباط والبلاهة، وتتحوّل السياسة معهم إلى نوع من العدم، ستظلّ تطلّ برأسها عند كلّ مفصل، تماماً كما ستظلّ محاربتها جزءاً من مهمّة «سيزيفية» كُتب على «مجانين» هذه الأمّة أن يخوضوها حتى يتغيّر «قلب القلب»... حتى ينفد الحزن.