يطرح كتاب «يد الله: لماذا تضحّي الولايات المتحدة الأميركية بمصالحها من أجل إسرائيل؟» (دار الشروق ـــــ ترجمة محمد السماّك) للكاتبة الأميركية غريس هالسل (1923-2000) سؤالاً أساسياً: ما هو الدافع العميق الكامن وراء الدعم المطلق الأميركي لإسرائيل والتعمية على جرائمها الفظيعة بحق الأبرياء والمدنيين؟! ليس الأمر تقاطع مصالح على أهميته ولكن الوجه الآخر هو هاجس سياسي منشؤه ديني، فعادة ما يغلّف كل فعل أو قرار سياسي بشيء يلبس لبوس الدين، لإضفاء شيء من الجدية أو التبرير الإنساني وإعطائه الصبغة الدينية هروباً من المساءلة، والبحث عن راحة ضمير مفقودة بين روائح الدم والقتل.
(محمد سباعنة ـ فلسطين)

إنها الأصولية البروتستانتية في القرن التاسع عشر التي تمسّكت بحرفية لاهوت العهد القديم، رافضة أي محاولة لاجتراح فهمه، ما سمح بـتأويل النص وتماهيه مع السياسة التي يرتاد ملاعبها الكبار من علية القوم في الاقتصاد والاجتماع، فجعلوا أي قضية يمكن أن تواجههم منطلقاً لإفراغ فهمهم الديني عليها، وإلباسها لبوساً سياسياً مقدساً غير قابل للمجادلة. هذا ما نجده في الأدبيات السياسية الأميركية في خطابات الزعماء السياسيين الذين يعتبرون حروبهم دينية، وأن الله هو من يوحي إليهم ويؤيدهم في قراراتهم. عثرنا على ذلك مع جورج بوش في حربه على العراق ومع غيره، وحتى اليوم مع بايدن كأكثر الصقور دعماً لكيان العدو.
في كتابها «يد الله»، حاولت الصحافية الأميركية البحث في سبب تأييد الولايات المتحدة لـ«إسرائيل» عبر إعادة كشف المفاهيم الفكرية للأصولية المسيحية الإنجيلية الأميركية، ودورها المفصلي في تشكيل القرارات السياسية الأميركية المتعلّقة بالشرق الأوسط، كونها بقعةً خصبةً كانت ولا تزال مساحة لتصفية حسابات وإدارة صراعات متشابكة سياسية ودينية.
تتكلّم هالسل عن مظاهر معاداة السامية، مركزة على أرض فلسطين كونها ساحة المعركة الدينية في نهاية المطاف، أي «معركة هرمجدون» والعودة المنتظرة للمسيح، وكيف توظّف هذه الفكرة لتغذية التلاعب السياسي. «أرمجدون» أو هرمجدون كلمة جاءت من العبرية «هار- مجدون» أو «جبل مجدو». وفقاً للمفهوم التوراتي، هي المعركة الفاصلة بين الخير والشر، أو بين الله والشيطان وتكون على إثرها نهاية العالم.
تقرّ هالسل في البداية بأن فهمها الأولي للشرق الأوسط، مثل بقية الأميركيين، قد تشكَّل عبر قصص العهد القديم، لكنه زاد في الستينيات مع انتشار المناقشات حول معركة هرمجدون أو أورمجدون والنشوة الدينية، إذ يعود يسوع إلى الأرض ويهزم الدجّال (الوحش) والنبي الكاذب والشيطان في معركة الشيطان هرمجدون. ثم ستأتي النار من عند الله، من السماء وتلتهم يأجوج ومأجوج والشيطان. عقيدة تؤمن بمجيء يوم يحدث فيه صدام بين قوى الخير والشر، وسوف تقوم تلك المعركة على أرض فلسطين في منطقة مجدو أو وادي مجدو، حيث ستحدث المعركة الأخيرة بين قوات الخير بقيادة المسيح ضد قوات الشر. مع أن كلمة هرمجدون ذُكرت مرة واحدة في «سفر الرؤيا»: «وجمعهم في مكان يُدعى باللسان العبري هرمجدون» (الفصل 16 ـــ الآية 16). كشفت هالسل عن مدى انتشار هذه النظرية التي تروّج لها شخصيات مؤثرة مثل فولويل وهال ليندسي اللذين قالا إن الله يريد للبشر أن يخوضوا معركة رهيبة تضع حداً للتاريخ الإنساني، وهي معركة هرمجدون.
مع بداية تأسيس الدولة الأميركية في القرن السابع عشر، لعبت الرؤى الأصولية المسيحية البروتستانتية دوراً هاماً في تشكيل هوية الدولة، ومصطلح المسيحية الصهيونية لم يُشر إليه قبل حقبة التسعينيات من القرن الماضي. وتصنف هذه المدرسة ضمن حركة البروتستانت الإنجيليين، ولهذه الحركة ما يقرب من 130 مليون عضو في كل قارات العالم.
ويُقدَّر عدد الأصوليين في الولايات المتحدة بنحو 50 مليون شخص. ضمن هذا المد نستذكر ما قاله الرئيس رونالد ريغان في عام 1980: ««ربما نكون الجيل الذي سيرى هرمجدون».
يتمسّك أتباع فولويل بفكرة غريبة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوقائع تتعلق بـ «إسرائيل»، أولها أن الله يتوقع عودة اليهود إلى وطنهم، وتلك الخطوة الأولى التي سيليها قيام دولة يهودية، ثم على المسيحيين تبشير الأمم كلها بعقيدتهم الدينية بما في ذلك «إسرائيل». وقبل أن تعم الحروب والمعاناة العالم، سينزل المسيح وينتزع أتباعه انتزاعاً، وهؤلاء هم من سيُكتب لهم النجاة ولن يُعانوا ولو للحظة من عذاب الأيام الأخيرة.
رسّخت هذه النظريات شخصيات مثل سكوفيلد، الذي خلط بين الخطط السماوية للمسيحيين والخطط الأرضية لليهود، ورأى أن كل الأحداث الرئيسة تتمحور حول إعادة «إسرائيل» إلى الوجود، وأنّ على اليهود أن يفعلوا ما يفعلونه حتى عودة المسيح. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفكر الكاثوليكي التقليدي يعتبر أن هذه الأرض مقدسة لعيسى المسيح، ولم تتضمن التعاليم إمكانية عودة اليهود إلى فلسطين، أو أي ذكر للشعب المختار، أو منطق وجود أمة يهودية بيد أنه منذ بداية حركة الإصلاح، انتقل التركيز اللاهوتي من تعاليم المسيح البسيطة إلى قصص الحرب في العهد القديم، وبدأ بعض المسيحيين يتعاملون مع التوراة على أنه المرجع الوحيد للتاريخ، وأصبح هذا التحول بمثابة مقدمة لظهور المذاهب الإنجيلية التي تتمحور حول هرمجدون وإعادة تأسيس «إسرائيل» في عام 1948.
في الأقسام الأخيرة من كتابها «العلاقة بين اليمين المسيحي واللاسامية»، أشارت المؤلفة إلى أنّ الكنيسة المسيحية كانت على مدى تاريخها معاديةً للسامية في ما يتعلق باليهود، غير أنه مع حركة الإصلاح الأوروبي تحوَّل بعض الأصوليين المسيحيين من كراهية اليهود إلى نوع آخر من التمييز يُدعى «السامية الفلسفية»، التي تدعو إلى اعتبار اليهود شركاء محبوبين، لأنهم سيلعبون في اعتقادهم دوراً في خلاص المسيحيين، ولذلك يؤيد الأصوليون المسيحيون «إسرائيل».
لكن نلفت إلى أنّ مدارس المسيحية ومذاهبها ليست مع هذا التنظير والرأي حتى لا يقع اللغط والفهم الخاطئ، بل هي جماعات ارتأت ذلك، فالمسيحية في أبرز وجوهها ترفض الصهيونية والسياسة الأميركية المشجعة للعدوانية الإسرائيلية المعتدية على المسلمين والمسيحيين ومقدساتهم على السواء، وليس دقيقاً القول ووضع شعارات مغلوطة من قبيل الصهيونية المسيحية التي تمثلها فئة معينة، فهي لا تمثل المسيحية برمتها في كل توجهاتها.
إن الصهيونية حركة سياسية مغلفة بغلاف ديني عند الحاجة وتهدف في نهاية المطاف إلى التوسع الاستعماري الذي يريد السيطرة على البشر وحكم العالم، حتى الصهيونية ليست متّفقة لا مع اليهودية كدين سماوي خالص يدعو إلى العدل والمحبة، ولا مع المسيحية كدين قائم على المحبة. إنها حركة عنصرية تحاول صبغ تهجيرها وقتلها لشعب بأكمله صبغة دينية، فأي دين هذا؟!.

* كاتب لبناني