عام 1952، كانت إيران تعيش في ظلّ حكم محمد مصدق، والذي أرست مدّته القصيرة بذور التمرّد على نظامٍ قولبه الغرب، لكبح جماح ذاتٍ جمعية تمتلك إرثاً حضارياً ومقوّمات أخرى، تجعل منها قادرة على التطوّر، بعيداً عن استنساخ تجارب الخارج التي غالباً لا تأتي سوى بالمزيد من العثرات. كان ذلك قبل أن تتمكّن «سي آي إي» من إسقاط تلك التجربة صيف عام 1953، بعملية أَطلقت عليها اسم «أجاكس» واعترفت بها عام 2013، أي بعد مرور ستة عقود.تشير المعلومات القليلة المتوافرة عن مطارح الولادة والنشأة في مدينة كرمان (عام 1952)، التي تعني أرض الجهد والعمل، إلى أن قاسم سليماني ولد في بيئة فقيرة. وعليه، فإنه لم يتلقَّ سوى تعليم ضئيل، ولكن «الجينات» التي تختزنها البيئة، كانت حاضرة في التكوين النفسي والذهني للفتى، حتى إذا لاحت رياح العام 1978، التي بدا أنها عصفت ببنية قائمة وأحلّت مكانها أخرى لا تشبهها كثيراً، كانت تلك «الجينات» جاهزة، خصوصاً أن حالة «الطباق» بين مخزونها وبين وجهة الريح جاءت مشجّعة. وفي لحظات الأعاصير، كثيراً ما يحتمي البحارة بسارية السفينة التي تمثّل نقطة ارتكازها. وجد سليماني في التنظيم الذي أطلق عليه بعد 11 شباط 1979 اسم «الباسيج»، ساريته التي لن يفارقها حتى استشهاده فجر 3 كانون الثاني 2020.
سرعان ما أظهر الشاب كفاءة لافتة بعد أن دارت طواحين الحرب العراقية - الإيرانية في خريف 1980. وفيها، تربّع على قيادة فصيلٍ اسمه «41 ثأر الله» الذي خاض معارك شرسة كان أبرزها عمليات «كربلاء الخامسة». وفي أتونها، سيَظهر مقطع فيديو يميط اللثام عن جانب مهمّ في شخصية سليماني التي كانت قد دخلت مرحلة الرجولة بعدما لعبت المعارك دور «محرقة» المراحل. في ذلك الشريط في كانون الأول 1986، يَظهر سليماني وهو يرثي رفاقه الشهداء، وعندما يأتي على ذكر بعض أسمائهم، كثيراً ما كانت عيناه تدمعان ليعاود الحديث بعدها في متوالية حدّاها الدمع والكلام، ويقول في نهاية المقطع بصوت متهدّج ومتقطّع: «أُشهد الله على أن هجرانهم أحرق قلبي». كان الحدث برمّته يبرز نزعة تصوّف جهادي في ذاتٍ بدا أن مشاعر الحنين والعشرة والفراق طاغية عليها.
شكّل عام 1998 نقطة تحوّل في مصير الرجل، الذي راحت كاريزماه تشغل الأوساط التي ترقب حالة نهوضٍ إيراني كان أصحابها يرسمون سقوفاً ثم يرفعونها على وقع تنامي القدرات، بجانب الاستثمار في مجريات المحيط. وفي ذلك العام، حمل سليماني لقب قائد «فيلق القدس»، الذي أصبح الذراع الأمضى في الدفاع عن تلك «السقوف»، والذي سيتصادم مع مراكز النفوذ الغربية المتكاثفة في المنطقة المتعبة. ظلّت مراكز الرصد التي تعمل على استكشاف الكاريزما، تقذف بعدد من التقارير التي بقيت بحاجة دائمة إلى «التحديث»، لكن إطارها العام كان يرسم صورة لرجل ذي شعر فضي اللون يضفي على الوجه رصانة من نوع آخر، فيما تراسيم الجسد تشي بأن نوازع الإرادة والقوة في حالة تحفّز دائم. لكن التناغم بين الحالين رسم شخصية إشكالية، آسرة عند البعض ومرواغة عند آخرين، الأمر الذي شكّل مادة دسمة للتقارير والأفلام الوثائقية التي يراكم بعضها، على ضفة المريدين، «الأسطرة» من نوع اعتباره «بطل نكران الذات»، بينما آخر غربي يراكم صورة تصفه بأنه معوّق أمام تمدّد قيم الحضارة الغربية ومصالحها.
فعل «الأسطرة» اكتسب مشروعيته في حرب تموز 2006، والتي كرّست صورة للرجل أقرب إلى المتصوّف الجهادي. ففي حمأة النار التي أبدى عبرها صلابة أسطورية، كان قد أوصى مجاهديه بترداد دعاء «الجوشن الصغير» سبيلاً لهدوء الروح وثبات الإرادة. ومع هبوب رياح «الربيع العربي»، أخذت وسائل إعلام غربية وازنة تصفه بأنه «أقوى شخصية في إيران بعد المرشد». وعام 2013، اعتبره جون ماغواير، ضابط الاستخبارات الأميركي، «أقوى شخص في الشرق الأوسط». كانت الصورة التي يرسمها مقرّبون من الرجل، تشير إلى حالة نقيضة للهالة التي رسمتها له وسائل إعلام الغرب. تلك تقول إن سليماني كان «يتواجد دائماً على خطوط النار الأولى في المعارك»، ولم يكن «يرتدي درعاً واقية من الرصاص»، بل إنه «في معارك تكريت كان يستقلّ دراجة نارية، ويندفع إلى الأمام»، فيما آخرون في محيطه الاجتماعي كانوا يشيرون إلى أنه «متديّن جداً ويقينه طاغٍ في كلّ كلمة يقولها وفي كلّ سلوك يمارسه»، وأفضل الألقاب التي يحب أن يُنادَى بها هو «الحاج قاسم».
حرب تموز 2006 كرّست صورة للرجل أقرب إلى المتصوّف الجهادي


في أواخر أيلول 2019، أجرى التلفزيون الإيراني مقابلة نادرة معه، أبرزت كاريزما شخصية مثيرة يرسم صوتها الخفيض إطارها الأبرز. أمّا لغة الجسد، فتبرُز عبر وداعة طاغية تشي بها حركات الأيدي وباقي أجزاء الجسد. ما يمكن لحظه في تلك المقابلة هو الأثر الطاغي للتاريخ والأيديولوجيا في فكر الرجل الذي أضحى بعمر السابعة والستين حينها، حتى ليبدو مسكوناً بهما. ولكن أبرز ما يمكن الوقوف عنده مما تسرّب عن كواليس المقابلة، هو أن المُحاور اضطرّ لإيقافها أربع مرات بناء على طلب سليماني الذي كانت عيناه تفيضان بالدمع عندما يأتي الذكر على رفيق درب رحل، ولكن الأغزر في الفيض كان عندما جاء ذكر الشهيد عماد مغنية الذي وصفه بـ«مالك الأشتر».
أمعن سليماني في توجيه طعناته إلى جسد «إمبراطورية الاستكبار»، كما كان يصفها. حتى كانت الرؤيا تقول إنه ماضٍ في إهراق هيبتها. والراجح أن العملية التي أدت إلى استشهاده جاءت في سياق هذه الرؤية الأخيرة. فدونالد ترامب قال، في تغريدة عن ردة فعل بلاده إذا ما «بالغت» طهران في الردّ، إن قواته «ستقصف 52 هدفاً إيرانياً إذا مضت طهران في سياق الانتقام لسليماني». والرقم مستوحى من عدد الرهائن الأميركيين الذين احتجزهم جند الثورة أواخر 1979، واستمر احتجازهم 444 يوماً، جاءت نتيجتها حاسمة بالنسبة إلى انتخابات تشرين الثاني من ذلك العام.
أرسى سليماني، في سياق الصراع مع كيان الاحتلال، نظرية يمكن تسميتها بـ«حلقات النار» التي يجب أن تطوّق هذا الأخير، فتحيط به كما السوار حول المعصم، ما دام أن موازين القوى لا تسمح باجتثاثه راهناً، تصحيحاً لمسار كانت له ظروفه وطقوسه. اليوم، في ذكرى الرحيل الثالثة، تبدو حلقات النار وكأنها أتمّت مراسم إحاطتها، حتى لم تعُد تحيق بالمعصم فحسب، بل طاولت أجزاء أهمّ من الجسد. لقد باتت النار على مشارف «القلب»، بل وذاك الجزء المسؤول عن إصدار أوامر الحركة، والذي يسمّى بالدماغ.