في سلسلة من المقالات التي نشرها صيف وخريف عام 2000 في صحيفتَي «السفير» و«وجهات نظر» تحت عنوان «سياحة صيف في الوثائق الإسرائيلية»، قدّم الراحل محمد حسنين هيكل، قراءة كشفت العديد من نقاط الارتكاز التي كان يستند إليها صانع القرار السياسي الإسرائيلي إبّان خوضه الجولة الأهم من الصراع العربي - الإسرائيلي في حرب حزيران 1967، والتي لا تزال المنطقة ترزح تحت تداعياتها، على رغم المحاولات التي جرت للتخلّص من مفاعيلها. قراءة هيكل كانت تستند إلى سيل من الوثائق التي جرى الإفراج عنها بعد مرور 33 عاماً على تواريخها، في عرف تتّبعه العديد من الدول والكيانات مع تفاوت مدد الإفراج، من دون أن يعني ذلك أيضاً أن كل الوثائق تصبح متاحة بانقضاء تلك المدد.تبرز، عبر تلك الوثائق، مفاهيم ونظريات تبنّاها «جيل المؤسسين» الذين كان أغلبهم قد شهد معارك الحرب العالمية الثانية التي كانت ولادة «كيانهم» إحدى نتاجاتها المباشرة. ولذا، فهم راحوا يستخلصون التجارب والأفكار، ثمّ يعملون على الاستفادة منها وإسقاطها على صراعهم مع محيط حضاري يخترن بين ثناياه العميقة، قدراً أكبر من عوامل الثبات والقوة والقدرة على النهوض من نظيره الأوروبي، إذا تناغم الشرطان الذاتي والموضوعي، ما جعل المهمة الأولى لـ«الكيان الوليد» العمل على كبح جماح ذلك التناغم، وصولاً إلى تهشيمه ما أمكن. ولعلّ ذلك يفسّر تماماً خفايا التعاطي الإسرائيلي مع «ظاهرة» جمال عبد الناصر، التي كانت تمثّل، بشكل ما، حالة هي الأقرب إلى التناغم المذكور، وتبشّر بنهوض يصبح لاغياً تلقائياً لوظيفة الكيان.
ومن بين أبرز النظريات المشار إليها، تلك التي يمكن تسميتها بـ«حدود السلاح»: أين يبدأ دوره؟ وأين يجب أن يتوقف؟، وهي تستحضر مثالاً كان صارخاً في حينه: ألم يتفوّق السلاح الألماني بدرجة جعلت من حامليه ينجحون في اكتساح دول أوروبية وازنة من مثل فرنسا وبولندا في مدد زمنية قصيرة؟ لكن في المقابل، ألم ينكسر ذلك التفوق على أعتاب جبهة ستالينغراد ونظائر بريطانية لها؟ ثمّ تأتي الإجابة على ذينك السؤالين بالقول إنّ فشل الألمان، رغم تفوّق سلاحهم، كان ناجماً بالدرجة الأولى عن عدم إدراكهم نظرية «حدود السلاح»، التي تعني ضمناً أن تفوّق السلاح مرهون بنجاح السياسات في معرفة حدوده التي يجب أن يتوقّف عندها. وبمعنى آخر، كانت الخلاصة تقول إن «السياسات الألمانية لم ترتقِ إلى مستوى تفوق السلاح».
في إسقاط هذه النظرية على السياسات الإسرائيلية، تُبرز الوثائق مداخلة لأهارون ياريف، الذي شغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان» ما بين عامَي 1964 و1972، ثم أصبح مستشاراً لرئيسة الوزراء، غولدا مائير، بعد عملية ميونيخ 1972، قبل أن يشغل منصب مساعد رئيس الأركان في حرب تشرين الأول 1973. في تلك المداخلة أمام «كلية الدفاع و الأمن القومي الأميركي» عام 1975، يقول ياريف: «في الشمال (سوريا ولبنان) كنا نصطاد بالشبكة. نحاول الإمساك بالسمكة من دون أن نجرحها. أما في الجنوب (مصر) فلم يكن مأموناً صيد الوحش بالشبكة. ولذا كان ضرورياً أن نصطاد بالرمح». وفي الشروحات التي أضافها ياريف لتبرير ذلك النهج، يقول إن «من الممكن، عبر استخدام أقصى درجات العنف وإراقة الدماء على الجبهة الجنوبية، إجبار مصر على الانكفاء إلى ما وراء حدودها، وخلق نوع من التوجه الأفريقي لها بعيداً عن سعيها للتلاقي مع الشق الآسيوي العربي». والشاهد الذي يمكن لحظه بوضوح عشية مفاوضات فك الارتباط عام 1974، والتحضير لاتفاقات كامب ديفيد، هو تنامي «الإرث الحضاري» الفرعوني في نُسُج المجتمع المصري المختلفة. أما سوريا ولبنان، فلا يمكن تحت أي ظرف من الظروف عزلهما عن الصراع أو إبعادهما عنه لأنهما موجودتان فيه بحكم عوامل التاريخ والجغرافيا، وذلك يقتضي استخداماً أقل للعنف تجنباً لإرساء «تراث» يطغى عليه الدم الذي غالباً ما ينتج «دمامل» سوف تحتاج إلى وقت طويل قبيل أن تصبح قابلة للتعافي.
شكّلت حرب الخمسين يوماً عام 2014 على غزة، خروجاً جزئياً عن ذلك النهج، عبر الاستخدام المفرط للقوة، والذي بدا أنه لا يراعي القواعد التي انطلق منها «جيل المؤسسين» في تعاطيه مع «الجبهة الشمالية»، التي يُقصد بها سوريا ولبنان، فكيف إذا كان مع جزء عضوي هو غزة، وهو أقرب بالتأكيد إلى عمق الصراع من ذينك الأخيرين. لكن الحرب الدائرة راهناً في غزة، منذ 7 تشرين الأول الماضي، شكّلت خروجاً نهائياً على النهج المذكور، بدرجة تكاد تكون قاطعة، الأمر الذي يضفي مشروعية كبرى على سؤال مفاده: لماذا كان هذا الخروج؟ أدخلت حرب تموز 2006، الكيان الإسرائيلي في حال من «الكسل الوظيفي»، الذي استدعى ترميماً للنظريات التي يستند إليها المشروع في دوامه وتنامي دوره، الأمر الذي ظهرت أولى نتائجه في حرب غزة 2014. لكن عملية «طوفان الأقصى» أدخلت الكيان في حال هو أقرب إلى «العطب الوظيفي» الذي لم يكن ممكناً معه الاكتفاء بالترميم، حيث ستدفع مخرجات العملية نحو نسف نظرية «حدود السلاح» التي يمكن القول إنها جاءت نتاجاً للشعور بفائض القوة القادر على رسم حدودها، وماهية الاستخدام الأمثل لها، وهو ما يفسّر العودة إلى النظريات التقليدية التي مارسها الفكر الغربي القديم، في تعاطيه مع المنطقة، أثناء حروبه التي شنّها على الكيانات والشعوب القائمة فيها والتي بدأت تقريباً مع مطلع الألفية الثانية.
كان الاستهداف الغربي للمنطقة، والذي بدأ مع نهاية القرن الأول من الألفية الثانية واستمر لنحو ثلاثة قرون، يقوم في بعده الاستراتيجي على محاولة الفصل بين الجغرافيا (الأرض) وبين التاريخ (البشر)، إذ تقول القراءة إنه إذا ما نجحت عملية الفصل تلك، فإنها ستؤدي إلى فقدان الجغرافيا مناعتها وسقوط التاريخ في التيه والضياع. والشاهد هنا هو أن العديد من المراجعات التي أجراها مؤرخون إسرائيليون لحرب حزيران 1967، كانت قد خلصت إلى نتيجة مفادها أن الحصيلة السياسية المتواضعة للحرب المشار إليها، رغم التفوق العسكري، تعود إلى عدم الذهاب بعيداً في تلك المحاولة، والوقوف على أطراف نظرية «حدود السلاح» التي كانت تغوص، آنذاك، في أعماق الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي.
ما يحدث الآن في غزة هو عودة إلى الفكر الغربي التقليدي في تعاطيه السابق مع المنطقة، والهدف الأبعد للحرب يكمن في محاولة فصل الجغرافيا عن التاريخ، لعلّ المحاولة تفضي إلى المرامي آنفة الذكر.
* كاتب سوري