ويشير هذا الأداء القتالي للمقاومة إلى أن «القسام» ومعها باقي الفصائل، قد ذهبت إلى نسق قتالي أكثر مرونة، لا يضع في أولويته استنزاف الجهد اللوجستي والبشري في عرقلة التقدم البري، إنما التعامل بتكتيك الإشغال المستمر، وحرمان القوات المتوغّلة من أي فرصة لتثبيت قواتها، بما يسمح لها بالانتقال إلى خطوة التمشيط الدقيق والعمل المريح في داخل الحواضن والأحياء العمرانية.
محاور القتال
أكثر المحاور سخونة، والذي شرعت الطائرات الحربية والدبابات في التمهيد الناري المكثّف فيه خلال اليومين الماضيين، هو محور شمال غزة، وتحديداً محور مخيم جباليا، والذي نفّذت الدبابات الإسرائيلية عملية التفاف لدخوله، قادمة من الأحياء الغربية لمدينة بيت لاهيا، وتحديداً حي السلاطين. وبدأت تلك العملية من حيث تقدّمت الآليات إلى مناطق ما خلف سجن أبو عبيدة، تمهيداً للتوغل من المناطق الشمالية الغربية للمخيم، وتحديداً من منطقة صالة الطيب، وصولاً إلى مناطق بير النعجة والفالوجا، ومنها إلى عمق المخيم. وحتى اللحظة، نفّذت القوات الغازية المرحلة الأولى من هذا المخطّط، فيما تواصل منذ ليلة الجمعة، التمهيد الناري العنيف بالأحزمة النارية المكثّفة، والتي ارتكب فيها العدو مجازر كبرى في مدرستَي «الفاخورة» و«تل الزعتر»، تسبّبت باستشهاد أكثر من 250 مواطناً وإصابة المئات خلال اليومين الماضيين.
أما المحور الثاني الذي يشهد معارك عنيفة جداً، فهو محور شرق حي الزيتون جنوب مدينة غزة. فبعد أن كان هدف استفزاز هذا المحور، هو إشغال مقاتلي «كتيبة الزيتون» التابعة لـ«القسام»، عن التوجّه لتقديم أي دعم للمحاور الغربية من شمال غزة، والتي شكّلت موقع الثقل والزخم الميداني، خلال الأيام العشرة الأولى من التقدم البري، تحوّل إحراز تقدّم فيه إلى غرض عملياتي بذاته، هدفه إطباق الخناق على الأحياء الشرقية للمدينة من مثل الزيتون والشجاعية والتفاح، من محورَي عمق المدينة القديمة (الساحة، عسقولة، دولة) والذي وصلته الدبابات من القاطع الغربي، بالتوازي مع هجوم مرتقب من الجهة الشرقية، حيث السياج الفاصل. ووفق الفهم الإسرائيلي، يمكن لهكذا هجوم، أن يشلّ قدرة المقاومين على التعاطي مع الزخم الناري العنيف، وتعدّد محاور التقدم البري المتزامن. وخلال الأيام الأربعة الماضية، شهد المحور المذكور قتالاً عنيفاً للغاية، فيما يقدّر جيش الاحتلال أنه بصدد أيام صعبة من القتال مع كتائب مركزية وقوية في منطقتَي جباليا والزيتون، حيث آخر خطوط الصد التي لا تزال تحتفظ بقوتها في أحياء شمال غزة.
بيت حانون نموذجاً
بلدة بيت حانون، هي أول المحاور التي بدأ العدو بالتمهيد لاقتحامها برياً؛ فمنذ اليوم الأول من الحرب، هجّر أكثر من 300 ألف مواطن منها، ثم شرع في تدمير كامل لأحيائها العمرانية، ليستمر القصف الجوي والمدفعي لها طوال 23 يوماً. واليوم، وبعد نحو 20 يوماً من بدء الهجوم البري، لا تزال قوات العدو تغرق في الأطراف الشرقية من المدينة. صحيح أنها تقدّمت في بعض الليالي إلى مناطق عميقة فيها، غير أنها اضطرت في وقت قصير جداً إلى الانسحاب منها، كما لم تستطِع تثبيت قواتها في أي من نقاط التقدّم وحتى الطرفية منها. هناك، تنوّع المقاومة تكتيكات المواجهة والتصدي، ما بين استهداف الآليات المتوغّلة بقذائف «الياسين 105»، والرصد الطويل للقوات الخاصة، وانتظارها إلى حين التمركز في إحدى الكتل العمرانية، ثم مباغتتها بقذائف الـ«TBG» الفراغية، ما يتسبب بوقوع خسائر بشرية كبيرة، أو تفخيخ عيون وفتحات الأنفاق المتوقّع اكتشاف أمرها.
كل تلك التكتيكات، تعكس مستوى التأقلم مع ظروف المعركة القاسية، ومواصلة العمل بأعصاب باردة، ما حرم الاحتلال من تحقيق أي منجز عملياتي في ذلك المحور. واستناداً إلى نموذج بيت حانون، يمكن أن تُفهم جزئية «المرونة» التي تحدّث عنها الناطق العسكري باسم «كتائب القسام»، أبو عبيدة، في خطابه مساء الجمعة، وعنوانها أن المقاومة لا تحدّد خطوطاً حُمراً، وتدفع في سبيل الدفاع عنها التضحيات الكبيرة، إنما تحدّد هدفاً مستداماً وطويل الأمد، يمكنه المحافظة على فعاليته طوال مدة الحرب، وهو منع كسر المقاومة، والمحافظة على عمل الجيوب المؤثّرة، بمعزل عن مستوى التقدم والاختراق العميق، وذلك حتى اللحظة الأخيرة من عمر القتال.