لقد أصبحت الأنفاق جزءاً حيوياً من إستراتيجيات حركات المقاومة في العالم أجمع ضدّ المحتل، وقد سبق أن استخدمتها القوات الشيوعية في فيتنام الشمالية من أجل الصمود ومواصلة تكتيكات حرب العصابات ضد فيتنام الجنوبية والولايات المتحدة. وقد لعبت دوراً كبيراً في هزيمة الأميركيين وفرض انسحابهم. لجأت المقاومة اللبنانية في حرب 2006 إلى حفر الأنفاق التي سمحت لها بالاستمرار في القتال من جهة، والمحافظة على حياة المقاتلين من جهة أخرى. أما حركة «حماس» فتستخدم الأنفاق منذ سنوات في مواجهتها المستمرة مع «إسرائيل»، وتُعتبر هذه الأنفاق رئة حياة بالنسبة إلى الغزاويين. يقول الخبراء إنّه لا يمكن تحديد حجمها بدقة، وهي تستعمل لأغراض متعدّدة، بما في ذلك تهريب البضائع والتسلّل إلى الأراضي المحتلة وإطلاق الصواريخ.
أبطال «نفق الحرية» استطاعوا الهروب من سجن «جلبوع» المُحصّن في أيلول (سبتمبر) 2021

تُمثّل الأنفاق تحدياً كبيراً للعدوّ لأنّها تقوم بتحييد مزاياه العسكرية وتفوقه الجويّ، وتسمح للمقاومين باستخدام عنصر المفاجأة لمهاجمة جنود الاحتلال من حيث لا يتوقعون. لكن الأنفاق والفتحات الأرضية لا تُمثل فقط مجرّد ممرّات تحت الأرض لها مداخل ومخارج، بل هي ترتبط بمعانٍ رمزية عميقة في المخيال الجماعي. تنتشر الأساطير التي تروي كيفية ولادة البشر من رحم أمهم التلورية وتكشف عن علاقة حميمة عميقة بين الإنسان والأرض. لقد تصوّر البشر الأوائل الأرض كأمّ ومصدر لكل الوجود، والعبارة الشهيرة الواردة في الإنجيل «اُذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التراب تعود»، تستحضر أصلنا الأرضي وارتباطنا بأديم هذا الكوكب. كما تستدعي القصص الدينية والأساطير حكاية آدم الإنسان الأول الذي يعني اسمه «الترابي» الرجل المخلوق من التربة الحمراء أو الصلصال. أما أسطورة الخلق الإغريقية الشهيرة، فتحكي عن التزاوج بين «أورانوس» إله السماء، و«غايا» إلهة الأرض وإنجابهما ثلاثة أبناء عمالقة أُطلق عليهم اسم «السيكلوب» واثني عشر طفلاً جباراً (التيتانز). لكن أورانوس كان يشعر بالغيرة من أبنائه، فسجنهم في أنفاق وكهوف في أعماق الأرض. غضبت غايا منه بسبب عدم سماحه لأبنائه بالعيش بحريّة، واستنجدت بأطفالها للانتقام، فاستجاب «كرونوس» إله الزمن للتحدّي وخرج من رحم أمه الأرض، ثمّ قام بقتل والده المتوحّش بمنجل يُستعمل في حصد المحاصيل. ترمز ثورة كرونوس ضد والده إلى قدرة الزمن على محو قوى الماضي المحافظة وإلى الكفاح المرير من أجل التحرّر. وهنا لا بُدّ من أن نذكر أبطال «نفق الحرية» الذين ـــ على منوال كرونوس ــــ تحدّوا سجّانيهم وكل وسائل المراقبة والتكنولوجيا الحديثة وحفروا تحت الأرض نفقاً يبلغ طوله 25 متراً، واستطاعوا الهروب من سجن «جلبوع» المُحصّن في أيلول (سبتمبر) 2021.

«أليس في بلاد العجائب» استعانت بالأنفاق كبوابات إلى عوالم خيالية وسحرية

من جهة أخرى، ترتبط صورة الأنفاق في اللاوعي الجمعي بالأماكن المظلمة والرطبة، ما يخلق جواً من العزلة والخطر. إلى جانب وظيفتها العملية كمسارب أرضية، فهي توحي بالغموض والمغامرة، وتُشير إلى الانتقال بين حالتين أو عالمين مختلفين. لاستكشاف أعماق الأرض، يجب على المرء أن يكون مستعداً نفسياً وجسدياً، أو أن يمتلك طبيعة معينة تتيح له الوصول إلى الحميمية الواقية لأحشاء غايا. لذلك، كان إتقان تقنيّات الحدادة والنار والحفر من المؤهلات الأساسية لمقتحمي جوف الأرض. الجدير بالذكر أنّه غالباً ما كان يُنظر إلى الحدّادين وعُمّال المناجم وحفّاري القبور على أنهم كائنات غامضة مثيرة للقلق لأنّهم يتلاعبون بالمواد الأرضية بواسطة قدراتهم الخاصّة والسريّة. لكنهم يتعرّضون أيضاً للازدراء من المجتمع بسبب سلوكهم الذي يعتبر نوعاً من سِفاح المحارم، نظراً إلى تجرّؤهم على العبث بجوهر الأرض، بما في ذلك لمس «دمها»، وهو ما يمكن تفسيره بأنه انتهاك لحدودها المُقدّسة.
كذلك يُنظر إلى الأنفاق على أنّها ممرّ إلى المجهول، فهي تُمثل الحدود بين العالم المعروف والعالم غير المستكشف. عندما ندخل في أي نفق، نتخطى حدوداً ممنوعة، سواء كان هذا النفق حقيقياً أو خيالياً. يمكن أن تعكس الأنفاق أيضاً مفهوم الانتقال بين الحياة والموت، وبالتالي تصبح دلالة على البحث عن معنى الوجود واكتشاف آفاق جديدة. لكن دخول جوف الأرض ليس بهذه السهولة، إذ يخشى بعض الداخلين في النفق عدم رؤية نهايته، فيعانون من أعراض فوبيا الأماكن المغلقة مثل ازدياد نبضات القلب، وتشنّجات القولون، وصعوبات التنفس، وغيرها. تتباين ردود فعل مجتازي الأنفاق، فمنهم من يُسارع إلى الخروج بلهفة، والبعض الآخر يمشي ببطء أو يتوقف عند المدخل، وتزداد الصعوبات في غياب النقاط المرجعية البصرية، لأن الخيال يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجسد.
استُخدمت الأنفاق والغرف السفلية في أفلام المغامرة وروايات الخيال العلمي وألعاب الفيديو


يمكن أن تمثل الأنفاق أيضاً رحلة الإنسان الداخلية، وغالباً ما تُستخدم كرمز لاستكشاف الذات والهويّة، والبحث عن الحقيقة، ومعرفة الأسرار المدفونة والأمور المحجوبة. بالنسبة إلى علماء النفس، تعكس الممرّات الضيّقة والمظلمة في الأنفاق أعماقنا النفسية حيث أفكارنا وعواطفنا وذكرياتنا. عبر استكشاف هذه الأنفاق الداخلية، يُمكننا العثور على العديد من الإجابات وتحقيق الفهم العميق لذواتنا.

كان يُنظر إلى الحدّادين وعُمّال المناجم وحفاري القبور على أنهم يتلاعبون بالمواد الأرضية بواسطة قدراتهم السريّة


أما في الثقافة الشعبية، فتعتبر الأنفاق والغرف السفلية عناصر مثيرة، غالباً ما تُستخدم هذه البنى التحتيّة في أفلام المغامرة وروايات الخيال العلمي وألعاب الفيديو لإنشاء حبكات شيّقة وتجارب جذابة. لا شك في أنّ قصة «أليس في بلاد العجائب» للكاتب لويس كارول أو «رحلة إلى مركز الأرض» لجول فيرن من أشهر الروايات التي استعانت بالأنفاق كبوابات إلى عوالم خيالية وسحرية. ومن الأفلام والروايات الشهيرة التي استخدمت سيميائية الأنفاق أيضاً فيلم «سيد الخواتم»، إذ شكّلت «مناجم موريا المخيفة» تجربة خطيرة للشخصيّات الرئيسية لأنّها مأهولة بالأعداء كالجن والأورك. كذلك، نذكر رواية «البؤساء»، إذ اختبأ البطل جان فالجان في مجارير باريس وأنفاقها للهروب من الشرطي «جافير» وإخفاء ماضيه الذي يستمر بملاحقته. وطبعاً لا ننسى رواية «الكونت دي مونتي كريستو» حين يفرّ إدمون دانتيس من السجن عن طريق حفر نفق نحو البحر، ما يشير إلى إرادته القويّة لاستعادة حريته ثم الانتقام من أعدائه. وقد منحت هذه العناصر الأرضية بُعداً رمزياً للقصص وسمحت للمشاهدين والقرّاء بالانغماس في عالم خيالي مليء بالإمكانات.
هكذا نرى أنّ الأنفاق والبنى السفلية هي أكثر من مجرد هياكل فيزيائية قد تستخدم لأغراض عسكرية بحت، إنها تُشكّل رموزاً قوية تثير خيالنا وتأخذنا في رحلات استثنائية عبر تمثيلها للمجهول، واكتشاف الذات، أو حتى معرفة أسرار اللاوعي. سواء واجهناها في حياتنا اليومية أو طالعناها في الفنون والأدب، تبقى الأنفاق مدخلاً إلى المغامرة، والانتقال من حالٍ إلى آخر، ورُبّما الاختباء من خطرٍ داهم.