لم تُشفَ أميركا من متلازمة فيتنام. اعتبر كثيرون أنها عائق ثقافي أمام النجاح العسكري الأميركي. لم تستطع بكل تكنولوجيا الحرب، مواجهة المقاومة الشعبية التي تستمد قوتها من الإرادة وروح الثبات، كما يحدث اليوم في فلسطين وعن طريق «قاعدتها العسكرية» في الشرق. في تلك المقاومة، يقول الشعب، بأطفاله ونسائه، كلمات تعكس تلك القوة التي لا يمكن أن تهزم.
عبر نظرة ما إلى خلفية ما يحدث، نفكّر في تاريخ دولة قائمة على استبدال ثقافة بثقافة وشعب بشعب. منذ الإبادة الثقافية للهنود، التي ترافقت مع الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، يقول توماس مكولاي، مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة: «لا أظن أننا سنقهر هذا البلد، ما لم نكسر عظام عاموده الفقري، أي لغته وثقافته وتراثه الروحي». هكذا، في سياق الاقتلاع والإخضاع والتعرية الثقافية أو المحرقة الأخيرة للوجود الهندي بتعبير رسل مينز، أحد أبرز وجوه الحركة الهندية، فقد كانت التعرية الثقافية هي التعبير الأمثل عن برامج التعليم التي فرضتها أميركا على مدارس الهنود الداخلية. كانت تزرع في الطفل الهندي ذاكرة الغزاة ولغتهم، فيشحن الطفل بالخوف من هنديته ويبدأ بالنظر إلى نفسه بعيون جلّاديه. يذكر الكاتب والباحث منير العكش في كتابه «الإبادة الثقافية» أنّ حرب الإبادة تركزت على الطفل الهندي، فقد حُقن باحترام الدولة الأميركية وتعلّم أن ما حدث لبلاده وأهله كان مواجهة بين «همجية» و«حضارة».

انتشرت جملة: «اسمو يوسف شعرو كيرلي أبيضاني وحلو»، فكتبها الجميع كقصة وقصيدة ولوحة

أما ما يحدث اليوم على أرض فلسطين، فهو يؤكد للعالم في كل مكان «الإجرام» المدعوم من الغرب المزدوج. تأتي كلمات الأطفال الفلسطينيين كأنها قاموس للإرادة الإنسانية. يقول طفل: «نحن سنبقى في أرضنا، وإن متنا، سيأتي غيرنا، وسنظل نقاوم». نتأكد عبر قاموس هذه الطفولة أننا أمام معركة أخرى، تنتصر فيها لغة يقولها أطفال ونساء، تختلف عن الندب والصراخ والبكاء، مع وجود ذلك طبعاً، إلا أنها تدهش من يقرأ ويشاهد ذلك، فيتحول المشهد إلى لغتين: لغة المستعمر المتمثلة في القتل والإبادة والكذب والتضليل، ولغة الشعب النابعة من قلب الأرض.
يقول الشاعر الهندي الأحمر أمبيرتو أكابال: «العدالة لا تتحدث لغة الهنود الحمر». وفي الملحمة الفلسطينية، تتحدث رماد البيوت والحجارة لغتنا. لذلك أيضاً يقول محمود درويش في «خطبة الهندي الأحمر»: «فلا تقتل العشب أكثر، للعشب روح يدافع فينا عن الروح». إنّها لغة لا تعرف الهزيمة، تلك التي ننشرها على الشاشات، فتصبح كلمات أمهات هؤلاء الأطفال قصائد، كما انتشرت جملة: «اسمو يوسف شعرو كيرلي أبيضاني وحلو»، فكتبها الجميع كقصة وقصيدة.
هكذا أيضاً، تناقل الفضاء كلمة «معلِش» التي قالها الصحافي وائل الدحدوح بعد استشهاد عائلته، تعبيراً عن الإرادة والصمود والمقاومة في وجه إسرائيل. تأخذ كلمات الضحية معنى خاصاً بها لتدخل قاموس هذا العالم، لتعني أنّ من يكتبها ويقولها هو فلسطيني.
وفي مقابل ذلك، تظهر صورة المثقفين المستلبين الذين يستخدمون تلك اللغة التي يتبناها الغرب الاستعماري. كتب الراحل إدوارد سعيد كثيراً عن رواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد لأنها تنتقد الإمبريالية الغربية، وتعرّي تلك الحقيقة، لكن كونراد أيضاً كان يكتب بالإنكليزية، وهو المهاجر البولندي الذي لم يستطع كثيراً أن يخرج من كونه إمبريالياً وضد الإمبريالية في الوقت نفسه. لكنه كما يرى إدوارد سعيد استشرف الهيمنة الأميركية في روايته. تحتوي مقاطع منها على قدر كبير من «بلاغيات النظام العالمي الجديد».
في قلب الظلام، نرى كيف تتحول تلك السرديات إلى كلمات تبحث عن معناها القادم من الأرض، فلا تجد في اللغات الأخرى مرادفاً لها، تماماً مثل كلمة «قهر»، التي كتبت الباحثة خديجة دجاني عن معنى لها في اللغات، فلم تجد لها مرادفاً، إذ كتبت: «القاموس يقول إنّه غضب، لكنه ليس غضباً. إنه عندما تأخذ الغضب وتضعه على نار هادئة، وتضع فوقه الظلم، والعنصرية واللاإنسانية وتطبخه لقرون».
وعلى لسان الهندي الأحمر، قال محمود درويش: «لن يفهم السيد الأبيض الكلمات العتيقة هنا/ في النفوس الطليقة بين السماء وبين الشجر». وتساءل كثيرون عن معنى كلمة سلام، وكلمة إنسانية، فقد تغير معناهما الآن وربما أصبح هناك لغة أخرى علينا البدء بتعلّمها وتعليمها لصغارنا. هل يكتفي العالم بشهادة آن فرانك ومعاناتها في الهولوكست؟ كم سيكتب الأطفال الذين بقوا مذكراتهم؟ وكيف سنجمع كل تلك الحكايات لنكتب قصتنا؟
هكذا أدرك فرانز فانون أن القدرة على تسمية العالم المحيط بكلمات المرء نفسها، يمنح المرء حساً بالتملك وحساً بالانتماء. أن تسمّي يعني أن تنتمي. هكذا تحل «سيدة البدايات وسيدة النهايات» ملكة على عرش اللغة، لنرى كلمات الشهداء وعباراتهم تكتب على الضوء، تماماً كما يكتبون أسماءهم على أيديهم كي نتعرف إليهم. إنه معجم الحقيقة في مواجهة كل الادعاءات...