جرائم العدو الصهيونية لم تتوقّف يوماً، حتى قبل نشأته كدولة، إلا أن فداحة الجريمة التي ارتكبها العدو تحت الإدارة والتخطيط الأميركييْن ومعاونة دول أوروبية تجاه الغزيين في المستشفى المعمداني الأهلي هزّت شوارع المنطقة العربية وغير العربية بشكل صدم العدو لناحية الحجم والاتساع، بدليل أنه تراجع عن تبنيه المبدئي للضربة وبعد ساعات ثلاث خرج العدو لينفي مسؤوليته رسمياً وليبدأ سباق تتابع للسرديات المضلّلة للتخفيف من النقمة المتفجّرة في وجهه. من المهم تفكيك هذه السرديات منهجياً وإرجاعها إلى التقنيات المعتمدة والتقليدية الغربية لتضليل الرأي العام، ولكنّ الأهم من ذلك بكثير فهم المغزى والمعنى من وراء هذه الجريمة.منذ الساعات الأولى تتالت التحليلات، منها من رأى أن الضربة هي ضرب من التهور المتوحش لآلة الحرب الصهيونية، ومنها من رأى أنها إحراج وتوريط للإدارة الأميركية عشية زيارة بايدن لكيان العدو إلى جانب رؤساء ومسؤولين أوروبيين مثل الألمان والفرنسيين وغيرهم. تحليل آخر خلص إلى أن الجريمة جاءت لتعطيل القمة الرباعية في الأردن خوفاً من كبح الاندفاع الأميركي في دعم الإجرام الصهيوني تجاه قطاع غزة (كأنما بايدن كان ذاهباً للقاء قادة محور المقاومة لا قدّر الله)، وآخرون رأوا أن نتنياهو يريد حرباً إقليمية تغرق فيها أميركا بشكل مباشر وتواجه بها الجمهورية الإيرانية بالنيابة عنه... من بين تحليلات كثيرة أخرى. ولكنني أعتقد أن فهم اختيار هذا التوقيت تحديداً لارتكاب مذبحة بهذا الحجم والفظاعة قبل زيارة بايدن بساعات يتطلب النظر إلى تاريخ أميركا نفسها في ارتكاب هكذا مجازر والمعنى الكامن وراء ذلك.
سجلّ الأميركيين حافل بمثل هذه الجرائم، منها ملجأ العامرية، ومنها قصف درسدن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أو القصف المجنون ليوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي، أو رمي القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي بمسافة أربعين يوماً بينهما، وعلى عكس ما أشاعته البروباغاندا الأميركية لعقود فقد ظهرت وثائق في الفترة الماضية تثبت أن المستهدف ردعه من هذه الضربات هم السوفيات لا اليابانيون، فقد خشي الأميركيون أن يصعد السوفيات المنتصرون باستحقاق الدم والسلاح على النازية كقيادة عالمية تتسيّد وتجبي ثمن تضحياتها على طاولة اقتسام العالم الجديد بين «المنتصرين».
من هذا المثال تحديداً يمكن الانطلاق لتحليل الرسائل والمعنى لاختيار هذا التوقيت لارتكاب هذه الجريمة؛ هناك محور مقاومة انتصر على مدى عقود، آخذٌ في الاستعداد والتمدد ويعمل على رسم عالم جديد في غرب آسيا، يهدد الكيان وجودياً ويشاغله على الحدود الجنوبية، عدا تسليحه ودعمه للمقاومات في غزة، ويهدد بفتح حرب إقليمية في حال تجاوز العدو الخطوط الحمر (بغضّ النظر عن ماهيتها). إذاً، هناك منافس إقليمي قوي يهدّد الهيمنة الأميركية والوجود الصهيوني ويشلّ اندفاع العدو نحو الاجتياح البري (عدا خطورة هذا الاجتياح بحد ذاتها على جيش العدو وعقله الاستخباري وسمعته الرادعة المستمرة بالانهيار المدوّي). كان من المفترض بحاملة الطائرات والتدخل الأميركييْن في المعركة التكفّل بردع حزب الله من فتح جبهة الشمال. وهنا قرار التدخل كان قد اتُّخذ من اليوم الأول من خلال عمليات عدة وإعلان أن الحزب ليس محايداً في هذه المعركة.
إن كانت حاملة الطائرات الكبرى وأختها الصغرى والأقزام البريطانية المتلاحقة لم تردع المحور، فاقتضى الأمر إرسال رسالة أكثر إرهاباً للمحور، قادة ومقاتلين وقاعدة شعبية. المضمون الأساسي الموجّه إلى القاعدة الشعبية والمقاتلين هو الصدمة وبث روح الهزيمة وتبديد نشوة الانتصار التاريخي الناتج عن عبقرية انتصار السابع من تشرين الأول وما لحقه من عمليات مقاومة. إلا أن الغضب العارم والمستعر في شوارع المنطقة تجاه العدويْن الأميركي والصهيوني وأعوانه الأوروبيين، تطلب سرديات تضليلية واعتذارية، ساعة تلوم الضحية وساعة تغيّب المجرم، وتارة تخفي هوية المكان المستهدف، وتارة أخرى تتراجع لفظياً عن العقاب الجماعي وتحاول ببلاهة فصل مياه الحاضنة الشعبية عن أسماك المقاومة بالقول إن الغرب يعلم أن «حماس» لا تمثّل الشعب الفلسطيني. كل هذا نتيجة الارتداد العكسي لمفعول الضربة على إرادة القتال لدى الحاضنة الشعبية.
العدو أراد إرسال رسالة إلى قادة المحور، مفادها أن الكيان المؤقّت ومن خلفه الاستعمار الغربي كله مستعدّون لارتكاب أفظع المجازر والذهاب إلى حافة الجنون والقفز بلا تفكير نحو المجهول


التوقيت لم يأت فقط قبيل زيارة بايدن بل عقب جولة وزير الخارجية الإيراني المهدّدة عبر مختلف ساحات المحور. العدو أراد إرسال رسالة إلى قادة المحور، مفادها أن الكيان المؤقّت ومن خلفه الاستعمار الغربي كله مستعدون لارتكاب أفظع المجازر والذهاب إلى حافة الجنون والقفز بلا تفكير نحو المجهول. الجريمة تقول: في حال فتحتم حرباً إقليمية، نحن مستعدون لاستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد شعوبكم بما فيها السلاح النووي. سنرتكب المذابح ضدكم بشكل جماعي ولن يرفّ لنا جفن، وسندافع عنها ونسيطر على السرديات ونقف صفاً واحداً متماسكاً. لو كان الغرب مقتنعاً فعلاً بأن المحور قد رُدع لما ذهب إلى هذه المشهدية المروّعة حتى أمام جمهوره، إلا أن الردع لعقل قادة الخصم مهم إلى الحد الذي تطلّب مثل هذه المجزرة.
هذه إستراتيجية ردع أميركية تقليدية؛ صحيح أن وزراء دفاع أميركا لم يعودوا يتكلّمون مثل دكتور سترينجلوف، ولكنهم -كل الإدارة- اليوم يتصرفون كذلك، فما هو على المحكّ نقطة ارتكاز السيطرة الغربية على بحار العالم، بمعنى ما هو على المحك 500 عام من الهيمنة العالمية. لذا، فالجنون أو التهويل أصبح مطلوباً مقابل التهديد الوجودي لخصم بدماء تغلي، وشارع مشتعل، والأهم أن لقيادته كل الدافعية للمواجهة مرفقة بعقل بارد.
في هذا السياق، يبدو تصريح وزير الخارجية الإيراني حول وقف المجزرة أن ما تشهده غزة سيصل إلى طهران، يعني في النهاية أن هذه الجرائم وما قد يكون أكبر منها لن يردع ويكبح إرادة القتال لدى عقل قيادة المحور لإدراكها أن «وحدة الساحات» ليست شعاراً ولا كرم أخلاق بل هي وحدة مصير حتمية. أمّا مسألة اختيار توقيت وإيقاع ومجال التصدي والرد، فهي إلى الآن تثير الهستيريا لدى العدو، فالغموض والمفاجأة سلاحان فتّاكان، كما أن عامل الوقت ضد مصلحة الصهيوني والأميركي اللذين يحتاجان إلى إغلاق الملف واستعادة شيء من صورة الردع في أسرع وقت. وفي حال اختارت الإدارة الأميركية البقاء لحماية العدو بهذا الشكل المباشر الذي يقارب الوصاية والانتداب، فذلك استنزاف مؤلم في هذا الوقت الجيوسياسي الحرج والمحرج والخطير على الإمبراطورية الأميركية.
لطالما ارتكب الاستعمار الخطأ نفسه باستصغار خصمه، لناحية الإرادة والذكاء، ولطالما أوقع نفسه في الرمال المتحرّكة نتيجة تهوّره وإجرامه ظناً أنها ستفني إرادة القتال لدى الخصم، الأمر الذي لطالما ارتدّ عليه عكسياً. يقال إن الوحش يكون في أعتى نوبات الجنون والبطش وهو يترنّح وهو ما كان وراء الضربة؛ رسالة ردع غير موفّقة لضبط إقليم متمرّد ومصرّ على لفظه من الجغرافيا والتاريخ، ولاستعادة ردع تبدّد دون رجعة.
* كاتبة عربية