«إنها الحربُ!قد تثقل القلبَ
لكن خلفك عار العرب»
[أمل دنقل]

حين تجد نفسك أمام ذلك المشهد المذهل، مشهد اقتحام المقاومين للأراضي المحتلَّة برّاً وبحراً وجوّاً، فهذا يعني أننا نعيش لحظة مفصليَّة في تاريخ صراعنا مع العدوّ الصّهيوني. وليس من المبالغة في هذه الأيام القول بأنَّنا أقرب من أيّ وقت مضى لتحرير فلسطين.
تلك الحدود، التي ظلّت تتمدَّد وتتوسَّع منذ نكبة 1948 وتهجير الفلسطينيين عن أرضهم، رأيناها تتقلَّص في ظرف سُوَيْعات في لوحة فنّية عسكرية ستحفظها سجلّات التاريخ وحروب التحرير. إنَّ حرب 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 هي فرصة حقيقية لتصحيح خطأ تاريخي عمره 75 عاماً هو «هزيمة 1948 وتأسيس إسرائيل». وهذا مشروط، أوّلاً، بإيمان كل قوى المقاومة في كل الجبهات، سواء في غزة أو لبنان أو سوريا أو إيران، أن هذه ليست جولة تصعيد، بل هي «حرب تحرير» مع ما يتطلبه ذلك من هجوم مشترك وتنسيق ولا سيّما اختراق الحدود واستعادة الأراضي. وثانياً، مشاركة أهالي الضفة الغربية في هذه الحرب بالعمل المسلح والنضال الجماهيري الواسع. وثالثاً، مشاركة الفلسطينيين في دول الطوق عبر مسيرات العودة على غرار ما حصل سنة 2019. كل هذا لمحاصرة الكيان الصهيوني من كل الجهات وعلى كل الجبهات لتشتيت جهوده وإرباكه. يجب أن يتحوّل العدو الذي حاصر غزة لمدة 17 عاماً إلى كيان محاصر حتى يصاب في النهاية بالشلل التام.
وهنا يأتي دور فلسطينيي الداخل حين يُعِيدون ما فعلوه سنة 2021 خلال معركة «سيف القدس»، حينها باتت «اللدّ» محرّرة من كل أشكال الوجود الأمني الإسرائيلي لمدة ليلة كاملة، وصرَّح رئيس بلديَّتها بأنهم فقدوا السيطرة على المدينة. كانت تلك الليلة «بروفة تحريرية»، أمّا اليوم فإذا أردناها تحريراً حقيقياً فليس أمام الشعب الفلسطيني إلا أن يقاتل حتى النهاية في حرب شعبية يشارك فيها كل أطياف الشعب الفلسطيني.
في الحروب التي ينجح فيها المستوطِن في إبادة أهل البلد والسكان الأصليين، فإنّ قضيتهم تنتهي إلى الأبد مثل ما حصل في أميركا عند اكتشافها، وفي أستراليا. أمّا حين يصمد أهل البلد، فإنّ القضية تبقى حية. أصبح جليّاً، في الأيام القليلة الماضية، من خلال المجازر التي يرتكبها العدو الصهيوني، ومن خلال تصريحات قادته، أن خطتهم الوحيدة في هذه الحرب هي إبادة أهالي غزة وتهجيرهم تهجيراً ثانياً بعد التهجير الأوّل في نكبة 1948 لتصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد. أمام هذا المُخطَّط، فإن الخيارات تكاد تكون معدومة، فإمّا أن ينجح العدو في تهجير الفلسطينيين أو أن تنجح المقاومة في تهجير المستوطنين من الأرض المحتلة وفتح الطريق لعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم.
لذلك، فإنّ هذه الحرب المصيريَّة لا تحتمل من يقف في المنطقة الرمادية، فإمّا أن تكون مع المقاومة بكل ما فيها أو أن تكون مع المستعمِر. حين يقرِّر أحد الفلسطينيين في هذه اللحظات التاريخية أن يقف عائقاً أمام عملية التحرير، كما فعلت السلطة الفلسطينية العميلة في رام الله خلال كل السنوات الماضية، فيجب أن يكون في مرمى أهداف المقاومة، لأنه ببساطة يساند مخطط نتنياهو الذي يلعب ورقته الأخيرة في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية بعدما أجهزت المقاومة على مستقبله السياسي يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وكما يقول ماو تسي تونغ: «ينبغي لنا أن نزيل من صفوفنا كل تفكير قوامه الضّعف والعجز. إنّ كل رأي يبالغ في قوة العدو ويستصغر قوة الشعب هو رأي خاطئ».
وحين يتأثّر أحدنا في هذه اللحظات بالخطاب الإنسانَوِي الغربي الذي يسود إعلامهم حالياً حول «الضحايا المدنيين من الطرفين» و«إرهاب حركة حماس»، فهو ينسى أننا إزاء قضية تحرّر وطني من استعمار استيطاني وليس إزاء مسألة حقوقية تعالج بمعايير أوروبية منافقة. ولا بأس هنا من التذكير بأن إحدى الأفكار المؤسِّسة للدولة الصهيونية هي توفير «وطن آمن» لليهود الذين عانوا الاضطهاد حيثما حلّوا، وفي مقابل ذلك فإن إحدى الأفكار التي يجب أن تسود حالياً هي أن «فلسطين آمنة فقط لأهلها». وليست حالة الاستنفار والهستيريا الغربية غير المسبوقة وعنصريتهم المبطَّنة ضد العرب والمسلمين منذ أن أذلّت المقاومة العدو الإسرائيلي سوى دليل على فداحة الخسائر الإسرائيلية والخطر الوجودي المحدق بدولة الإحتلال.
إنّ هذه الحرب ليست سهلة، وللأسف ستسيل دماء كثيرة في الطريق، لكن حرب الفلسطينيين مع إسرائيل منذ نشأتها لم تكن يوماً أسهل بالنسبة إليهم ممَّا هي عليه اليوم باعتراف العدو الصهيوني نفسه. خلال الحرب العالمية الثانية، مثَّل انتصار مدينة ستالينغراد الروسية بعد حصارها من قبل ألمانيا النازية إيذاناً بميلاد نظام عالمي جديد. وبالمثل، فإنّ انتصار غزة اليوم سيكون إيذاناً بعالم جديد. غزة اليوم تحارب نيابة عن كل المظلومين والمضطهَدين والجنوبيّين، تحارب غطرسة الإمبريالية الأميركية والاستعمار الغربي، تحقِّق ثأر العراقيين والليبيين واليمنيين والسوريين وكل من قصفته الآلة الحربية الغربية.
الأقدار وضعت أهالي غزة أمام حتميّة تحمُّل الآلام لاحتضان مولودهم الجديد، مولود اسمه «فلسطين الحرة».
* كاتب تونسي