ساعة بعد ساعة، ودقيقة بعد أخرى، تتعمّق الورطة الإسرائيلية الوجودية. فبالتوازي مع بدء انكشاف الأكاذيب التي روّجتها الماكينة الإعلامية الغربية الجبّارة، وافتضاح أشكال التزوير وغيرها من صنوف الإرهاب الإعلامي والسياسي والثقافي الغربي المرافق، تتواصل فصول الوحشية الإسرائيلية باستهداف إبادي لا سابق له لمدنيّي غزة من أطفال ونساء وشيوخ ولكل مرافق الحياة فيها. وعليه فإن رخصة الإرهاب الأميركي لإسرائيل هي هي ولا جديد. الجديد هو في إضافة الإبادة الكاملة والشاملة على الرخصة المعطاة سابقاً والمفتوحة زمانياً ومكانياً.ومن جديد مهدّد بأن يصبح قديماً جرّاء التسارع في الأحداث وأرجحية (لا شك فيها!) شمولها باقي الجبهات المتأهّبة، تتأكد الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، وهي أن الإرهاب هوية وممارسة وتقاليد، إنما هو صناعة بحت أميركية، ولا يملك أحد في العالم حقّ استعارته ولا محاولة تقليده. بل إن كل محاولات التقليد، وآخرها مشهديات داعش وأخواتها، مُنيت بالفشل الذريع. وهي لا تعدو أن تكون عمل هواة إذا ما قيست بالإرهاب الأميركي المحترف الذي ربما لم يترك بقعة في العالم لم يُطاولْها.
ساعة بعد ساعة، ودقيقة بعد أخرى، تتعمّق ورطة إسرائيل ويتبدّى عجزها إلا عن الإرهاب العاري. فهذا الإرهاب الجاري تنفيذ فصوله الإبادية، مع ما يصاحبه من فظائع «قيامية»، لم يجد من يدينه من «متحضّري» الغرب المزعومين. بل إن هؤلاء لا يكفّون عن التشدّق الفارغ بالحريات والديمقراطية وغيرها من العبارات التي لا تعني شيئاً، وإن عنت فلا أقل من عكسها. ومع ذلك، وبالرغم من كل هذا الصمت الذي لم تخرقه غير أصوات أصحاب الضمائر والأخلاق في أميركا اللاتينية وروسيا والصين فضلاً عن حلفاء المقاومة، لم يتجرّأ أحد على معاكسة الإملاءات الأميركية، التي قضت بالانتظام الحديدي والفوري في طابور الحرب التي تتجاوز غزة لتشمل كامل جغرافيا المنطقة العربية وربما أبعد. ومع ذلك، وهنا تكمن الأهمية التي لا توازيها أهمية، فإن غزة، وبالرغم من كل جراحها النازفة، وشرايينها المفتوحة، تقاتل وتقاوم.
الاستفراد بغزة هو العنوان السياسي والعسكري الوحيد الذي يشغل بال إدارة الحرب الأميركية ويقضّ مضاجع قادتها، وهو الهدف الذي تسعى جاهدة لتحقيقه. فهي، وانطلاقاً من مسؤوليتها عن إطلاق الحرب التي أعلنها جو بايدن وأيّده فيها التابعون الأوروبيون وبعض المستعربين، فإنها مهتمّة بتأمين شروط النجاح الإسرائيلي. ومع أن الشروط المتوهّمة هذه مشكوك فيها، إسرائيلياً وحتى أميركياً، بدليل وقائع البطولات الغزاوية اليومية، فإن الخشية من المفاجآت التي يمكن لغزة أن تصفع بها العالم تفرض على الأميركيين محاولة حصر النار في غزة، ومنع امتدادها إلى سائر الجغرافيا المحيطة بها. وهي إذ تفعل ذلك فليقينها من احتمالات هزيمة محقّقة، خصوصاً في حال أقدمت المقاومة اللبنانية على تنفيذ التزامها السياسي ووعدها الأخلاقي تجاه فلسطين وأهل غزة. وهي الخشية التي تفرض على أنطوني بلينكن العودة إلى تل أبيب، والتي يستدل عليها من التورط الأميركي السافر في إعلان الحرب والجهد المبذول لتوفير مستلزماتها اللوجستية والاستخبارية و... وتكرار بايدن وفريقه «دعوة» المقاومة اللبنانية وبالاسم إلى الامتناع عن نصرة غزة.
يبقى أن يقال لـ «الخصوم» الذين يتهكّمون على و«حدة الساحات»، ويسألون عنها ببلاهة معيبة أنها جارية العمل. ولعل ما يمنعهم من رؤيتها وتلمّس نتائجها، يكمن، حصراً، في قصر نظرهم السياسي والوطني والأخلاقي... فوحدة الساحات هذه بادية إلى درجة تكاد أن تفقأ العين. ولعلّ واحدة من جُملها التي يمكن الإشارة إليها هي هذه التحركات الأميركية المحمومة وحشد الأساطيل وممارسة الإرهاب السياسي المباشر وغير المباشر على المتردّدين، وكذلك تتجلّى في ازدحام تل أبيب وعواصم المنطقة بالأميركيين ورسلهم.
سنكون ولا شك أمام «شرق أوسط» جديد، إنما من نوع مختلف عن ذاك الذي بشّرتنا به كوندوليزا رايس، أو ذاك الذي يبشّرنا به أهل التطبيع وقوّادوه من العرب. وسيكون ومن دون أدنى شك على صورة ومثال الملحمة الجارية التي يصنعها أبطال غزة ومقاوموها، وبحجم التضحيات التي يبذلونها. وإنّ غداً عربياً جديداً لا مكان فيه للأوغاد لناظره قريب.