في مشهد نادر، و«هوليوودي» الطابع، اجتمع «العالم» كما لم يحدث أن اجتمع من قبل. طبعاً، العالم بمعناه الحقيقي أوسع وأكبر من أن يُختزل بهذه الحفنة التافهة من ضواري الغرب وكواسره. والهدف المُعلن من هذا الاجتماع النادر وغير المسبوق، لا بند له، أقلّه علناً، إلا بند الانتقام من غزة. فتأثير غزة ومقاومة أهلها على ما يُعدّ للمنطقة من مشاريع تصفية ومخطّطات تهجير، بات فوق الاحتمال الإسرائيلي، فضلاً عن أن ذلك الهدف بات أكثر من ملحّ ويقضي بـ«تحطيم» مقاومة حركة «حماس» كجائزة ترضية بعد تعذّر النيل من مقاومة «حزب الله» والخشية من مواجهته. وإذا كان صحيحاً أن غزة هي المحور الذي لمّ شمل الضواري العلني ووحّد صفوفهم، فإنّ الهدف الفعلي ربما كان يتجاوز غزة وإن كان يبني عليها. وهذا الهدف يشمل إلى غزة، بما تمثله من ضمانة من ضمانات الحقوق الفلسطينية، لملمة الخسائر الغربية المتفاقمة في غير ساحة وغير منطقة والحدّ منها. وهي الخسائر التي باتت تفوق القدرة على الهضم. فالعالم المهيمِن لا يطيق ما يعيشه من فقدان متدرّج ومتسارع لأسباب السيطرة على المقدّرات والإمساك بالثروات. فعلى جبهة أوكرانيا، حيث الإخفاقات الغربية تتراكم، على رغم كل ما يُبذل من موارد، ترتسم معالم العالم الجديد الذي يتعارض مع ثقافة الغرب وممارساته الإمبريالية. ولأن للقاعدة المسماة إسرائيل دورها في هذه الحرب الشاملة، وجبهة من جبهاته المتقدمة، فإن ما أصابها جرّاء الهجوم الفلسطيني المباغت مثّل صدمة إضافية ومباغتة تردّدت أصداؤها في «المركز» الأميركي، ومن خلاله في باقي العواصم الأوروبية التابعة. فالهجوم الفلسطيني الذي أصاب الثكنة الغربية المتقدّمة ونال من هيبتها، من شأنه أن يفتح الآفاق العربية بغير ما يشتهي الغرب الذي يحاصر سوريا ويخنق مصر... كما أن من شأنه أن يقوّض الجبهة ويؤثر على خطط المعركة المركزية في أوكرانيا.من هنا، وأمام فشل القاعدة الإسرائيلية المتقدّمة وانكسار هيبة جيشها، وبدء تصدّع نسيجها، كانت الخشية الغربية كبيرة، وكان الهلع الذي عمّ العواصم، ودفع بجو بايدن إلى التفاعل السريع، وإصدار الأوامر لأوروبا بالانتظام الحديدي في طابور الحرب على المنطقة، والمسارعة عبر سفنه الحربية وحاملات طائراته إلى الحضور المباشر على المسرح.
ما كان أنطوني بلينكن ليجرؤ على الحضور ولا على قول ما قاله في حضرة أرضنا العربية المحتلة، لو لم يكن الموقف العربي الرسمي شريكاً، ولو ثانوياً، في بعض تفاصيل الخطة، وخصوصاً في جانبها الفلسطيني. أو حتى لو كان الموقف الرسمي العربي المذعور غير هذا الموقف. بل إن بلينكن هذا، ما كان ليسمح لنفسه بتوجيه التهديدات وتوزيع الاتهامات ورسم الخطوط الحمر لو لم يكن مطمئناً إلى حقيقة الموقف العربي، وخصوصاً بنكهته السعودية المقززة. فالتقديرات المبنية على المعلومات، تقول إن لابن سلمان دوره في الحرب المفتوحة على غزة، كما كان له دوره في الحصار المفروض عليها. حديث نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، صالح العاروري، يقول الكثير في هذا الشأن وخصوصاً حين يشير إلى السياقات التي أوجبت الهجوم الفلسطيني الإبداعي خطة وتنفيذاً، والتي جاءت في سياق استباقي فحسب. وتالياً التمكّن من ضرب البرنامج السعودي ـ الإسرائيلي في مهده، عبر استباق ما كان يُعدّ لغزة. وما كان يُعدّ لغزة كان كبيراً وإن لم تتوضّح كامل خيوطه بعد. فحسب البرنامج المُجهض، فإن ابن سلمان كان قد ربط بين تمكنه من الشروع العلني في التطبيع، وبين ضرورة تحطيم عقبة غزة، وهو ما يعجز عنه ويخشى منه. وهنا، كان توزيع الأدوار المتقن، والذي قضى بأن تتولّى إسرائيل بتغطية سعودية ـ إماراتية توجيه الضربة الكبيرة، بما يسمح لاحقاً بفتح الطريق وربما تعبيده أمام ما هو أخطر، وبما يمكّن السعودية وإسرائيل من السير في مشروع التطبيع الجاري والذي كان قد قطع شوطاً كبيراً، ولم يعد ينقصه سوى شكليات الإعلان والتوقيع الرسمي. لكن الاستباق الغزاوي جعله في مهب الريح، ولن يلبث أن يشطبه شطباً كاملاً. وهو ما استدعى ويستدعي كل هذا الاحتشاد الذي يراهن على استعادة المبادرة وتنفيذ ما كان بصدده قبل المفاجأة الغزاوية المدوّية. وهي المفاجأة التي خلطت الأوراق، وتُنذر بأن تفتح الطريق الواسع أمام أفق آخر، وخصوصاً إذا ما اتسعت دائرة النار وشملت باقي الساحات المتأهبة.
شبه الصمت السعودي الراهن هو في الحقيقة انتظار لما ستؤول إليه المجريات


شبه الصمت السعودي الراهن هو في الحقيقة انتظار لما ستؤول إليه المجريات. فإن تحقّق لإسرائيل ورعاتها التمكّن من غزة ومن أهلها، وهذا ما لن تسمح به قوى المقاومة العربية في لبنان وسوريا والعراق واليمن... سيكون الموقف السعودي جاهزاً لتلقّف النتائج التي يطمح إليها. وإن فشلت إسرائيل يمكن عندها لابن سلمان التملّص من التعهّدات المقطوعة، وإبقاء التطبيع في دوائر الصمت التي يقبع فيها بانتظار فرصة أخرى.
نجاح غزة في ضرب المشروع في مهده، والعبقرية العسكرية التي رافقت هذا النجاح التاريخي، أفقد أصحاب المشروع وصبيانه العرب صوابهم. ودفعهم إلى هذا القدر غير المقيّد من الجنون ومن الوحشية، وإلى بذل كل ما يبذلونه من جهود التعبئة وأشكال التحريض ونزع الإنسانية لتجاوز النكسة الكبيرة التي أصابته. وذلك في محاولة شبه أخيرة لتجنّب ما أصاب مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الذي سبق له أن سقط تحت أقدام رجال المقاومة اللبنانية وبناتها.
والإعداد الجاري اليوم لمسرح القتل المفتوح يستوجب غربياً وإسرائيلياً كل هذا التضليل المدروس والممنهج الذي يحيط بنا. وإن التشويه والتضليل يبلغان مداهما الأقصى مع إصرار الخارج «الدولي»، كل الخارج الدولي، بساسته وعسكره وإعلامه ونُخبه ومثقفيه ورأيه العام... على تجاهل ما تتعرّض له غزة وباقي فلسطين من تدمير وقتل وحرق. وسابق المصلحة والقرار الغربيين ولواحقهما بالترويج لفبركات لا أساس لها من الصحة، والتباكي الكاذب على بضعة جنود أُسروا، يترافق مع تجاهل تام ومفضوح لواقع أن هناك شعباً بكامله يذبح، وجرائم لا سابق لها ترتكب.
فبموازاة القصف الإسرائيلي الإبادي، يسلّط الإعلام الغربي المتجنّد لخدمته حملة ضارية لا تعرف الضوابط، ويرمي بحممه الإعلامية الذكية والغبية على مسرح غزة. فحقيقة هذا الإعلام أنه يمثل، في جوهره، جيشاً لا يقل فتكاً وشراسة. وهو في قصفه للعقول من التلفزيون والإذاعة والصحف... إنما يتمّم مهمّات القتل وتقطيع الأجساد وتسوية المنازل على ساكنيها بالأرض. بل إنه لا يتحرّج من نزع الإنسانية عن كل من لا يتفقون مع مصالحه. ففي عرف هذا الإعلام المجرم والمنحطّ، ليس لحقوق الفلسطيني أو حريته أي قيمة. وقيمته في حال الاعتراف به، مرتبطة حصراً بإبادته وتجريده من كل جوهر إنساني.
هذه هي الخلفية التي لا خلفية لها لكل ما يجري في غزة اليوم، وهي الخلفية التي تفضحها المقارنات المسمومة عبر إعادة استحضار الهول النازي وجرائم الهولوكوست و11 أيلول إلى... فبالنسبة إلى هذا الإعلام، والواقفين وراءه، فإن التجرؤ على إسرائيل وما تمثّله هو الفظاعة المطلقة التي تهون أمامها كل الفظاعات الأخرى.
الاستهانة بالعرب وبالحد الأدنى من مصالحهم، لا حدود لها. فالصلف الأميركي وتطاوله المترجَم بمنح إسرائيل صك البراءة المسبقة من الجريمة الكبرى الجاري الإعداد لها، ما كان ليكون على هذه الشاكلة ولا بهذا المستوى، لو كان الموقف العربي العام غير هذا الموقف، ولو كان الحكام ـ المحكومون، غيرهم.
ما أشبه اليوم بالبارحة. ففي عام 2006، احتشد العالم أيضاً كما لم يحتشد من قبل، وعمل على محاولة مطابقة للمحاولة التي يسعى إليها اليوم، إلا أنه صُدم بأن إرادة أهل الأرض أقوى من أن تُكسر وأصلب من أن تلين.
يبقى أن ما يمكن التأكّد منه، والرهان عليه، أن المقاومة اللبنانية (وحلفاءها) مدركة لمسؤولياتها تمام الإدراك، وهي لن تتخلى عن واجبها تجاه فلسطين، كل فلسطين، كما تدرك أن الدفاع عن الأرض وناسها أمر حتمي، وأنها لن تتوانى عن هذه المهمة المقدّسة مهما كانت الأكلاف باهظة، وهو ما يجدر بالجميع معرفته والحذر منه.