«في الأسبوع الماضي، كان المسؤولون الكبار على قناعة بأن حماس غير معنيّة بالحرب إطلاقاً». وردت هذه الجملة في تقرير لصحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، تناول 6 إخفاقات جدّية قادت إلى نتيجة واحدة: الانهيار أمام «حماس». على رأس هذه الإخفاقات، الانخداع بما أرادت الحركة تصديره، فيما وجوه الفشل الأخرى تتمثّل في عدم وجود إنذار استخباري، إذ لم تدرك قوات الأمن أن «حماس» اختطفت جنوداً ومواطنين قبل نشْر الحركة ما يوثّق ذلك، كما لم يعلم الجيش بدخول قوات عبر البحر إلّا في مرحلة متأخّرة من الهجوم. ويُضاف إلى ما تَقدّم، الاسترخاء والاطمئنان على الجبهة (لم يكن هناك جنود على نحو كافٍ)، وصعوبة نقل الجنود إلى هناك، وانتظار هؤلاء ساعات في نقاط التجمّع، والفوضى التنظيمية العارمة التي اضطرّت بعض أولئك إلى تنظيم أنفسهم ميدانياً، تحت قيادة أيّ قائد يصادف وجوده في المكان. وإلى ما قبل العملية بأيام، كان كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين يقولون إن «حماس تسيطر على مستوى التوتّر في المواجهات، ولكنها لن تبادر إلى حرب تضرّ بالإنجازات التي حقّقتها لسكان القطاع في إطار الاتصالات غير المباشرة للتوصّل إلى تسوية». وفي الاتجاه نفسه، طمأن تساحي هنغبي، رئيس مجلس «الأمن القومي»، إلى أن «حماس مكبوحة جدّاً جدّاً»، مضيفاً أنه «منذ عملية حارس الأسوار (سيف القدس) في أيار قبل عامين، هنالك قرار لدى قيادة حماس بإبداء ضبط النفس والانضباط غير المسبوقَين. منذ ما يزيد على سنتَين، لم تطلق حماس لو قذيفة واحدة من غزة». وفقاً لكتاب صادر عام 2002 تحت عنوان «Anticipating Surprise: Analysis for Strategic Warning»، فإن المفاجأة العسكرية عادةً ما ترتكز على مباغتة العدو تحت أحد العناوين التالية: الجغرافيا، التوقيت، الأسلوب، الحجم، السلاح والتكتيك. وإذ نادراً ما يستطيع طرف ما أن يجمع تلك العناصر كلّها في هجوم واحد، فقد نجحت «حماس»، في «طوفان الأقصى»، في جمعها فعلاً، على نحو جعل العدو عاجزاً عن الردّ والمواجهة أو حتى الكبح. على أن الأهمّ من ذلك هو الخداع العميق الذي تعاملت به «حماس» مع العدو، إذ استطاعت التلاعب بعقله الاستخباري، وترْكه مزهوّاً بنجاح وهمي متمثّل في حشر الحركة في زاوية الأزمات المعيشية، وإجباره إيّاها على ردع نفسها، الأمر الذي أوقع إسرائيل في الخطأ نفسه الذي ارتكبته قبل عقود خمسة، رغم تطوّر استخباراتها التقنية والجوية والبشرية، وقدرتها على اختراق القطاع وحركات المقاومة داخله. وفي ما تَقدّم، دليل إضافي على تفوّق الحركة في التخطيط المنضبط والسرّي لهجوم متعدّد الجبهات يؤديه ألف مقاوم.
هناك مَن يحذّر من تبعات «الطوفان» على فلسطين وشعبها، رغم أن هذه العملية أجهزت على أسطورة تفوّق المستعمرة الإسرائيلية البيضاء

وفي هذا السياق، يقارن المحلّل سكوت ريتر بين «حرب أكتوبر» و«طوفان الأقصى»، قائلاً إن «الخطأ الأساسي، قبل نصف قرن، كان نابعاً من أن الاستخبارات الصهيونية انطلقت من المفهوم لتحليل الوقائع على الأرض. أمّا اليوم، فإنّنا نرى أن حماس استطاعت أوّلاً السيطرة على الوقائع على الأرض بصورة مبهرة حتى لا يستقرئ منها العدو أيّ مؤشّرات إلى الطوفان القادم، وأكثر من ذلك، بنت ببراعة المفهوم الذهني الذي منع العدو من الاستعداد أو الجهوزية لأيّ احتمال صغير ينبئ بنيّة الحركة فتح أيّ مواجهة معه». والأكيد أن هذه المفاجأة أصابت العدو بعقله، الذي يمثّل موضع ثقته بتفوّقه العنصري والعسكري والسياسي، علماً أن إسرائيل لم تخرج من جنوب لبنان إلّا عندما اقتنعت بعجزها الفكري أمام المقاومة اللبنانية، إذ قال إيهود باراك: «رغم أننا نمتلك أفضل أجهزة الاستخبارات والتقدير في العالم، ولكننا نحتاج إلى رأس كثير الدوران كي نعرف كيف نال منّا حزب الله». واليوم، فإن مفاجأة مِثل «طوفان الأقصى» ستجبر العدو على التحوّل السريع والجذري نحو الدفاع مقابل بنيته التاريخية القائمة على الهجوم والتوسّع، وفقاً لما يدلّل عليه، مثلاً، تقرير مصوَّر لـ«مركز الدراسات الإستراتيجية» (CSIS)، يُظهر كيف يمكن للقوة الكامنة في المفاجأة الإستراتيجية، تغيير مجرى التاريخ.

المتشائمون، الاعتذاريون، والندابون
وسط هذه الملحمة، تتصاعد أصوات نشاز تستفيد منها آلة البروباغاندا الصهيونية والغربية، بينها مَن يحذّر أصحابُها من تبعات «الطوفان» على فلسطين وشعبها، رغم أن هذه العملية أجهزت على أسطورة تفوّق المستعمرة الإسرائيلية البيضاء، وشكّلت نموذجاً لمِا يمكن أن يتحقّق في المستقبل، في إطار الصراع الأممي ضدّ الاستعمار كلّه وليس العربي - الصهيوني فقط. أمّا الاعتذرايون، الخائفون على صورة الفسطيني ومقاومته أمام العالم، والذين يضعون شروطاً أخلاقية ومعايير لوقوفهم إلى جانبه في صراعه للتحرّر وتحرير الأرض، فهُم إمّا خبثاء أو مغفّلون؛ إذ عن أيّ عالم يتحدّثون؟ عن الغرب الجماعي الذي يرفض الاعتذار والتعويض عن الإبادات الممتدّة لقرون على رقعة الكوكب؟ أم عن عالم الجنوب؟ إن من غير المعقول وضع الميزان الأخلاقي في وجه المقهورين وهم في أوج ثورتهم على عقود من التدمير الاجتماعي والثقافي والقمع والعنف المتوحّش، كما إدانة أيّ ممارسة للعنف الثوري هي إدانة للحياة نفسها. وهنا، يحضر حديث جان جينيه، الذي يرى أن خروج الجذور من البذرة عمل عنيف، والولادة عمل دموي وعنيف، ومقاومة الاستعمار عمل دموي وعنيف، ولكنه عنف الحياة، عنف لا يسعى إلى الإبادة أو الهيمنة ولا يتطلّب الاعتذار، بينما القسوة هي الجليد الذي يقتل به الاستعمار روح الآخر وجسده، ويفرض عليه الموت برداً حتى من دون أن يسيل دمه. وعليه، فإن المقارنة الأخلاقية بين العنف والقسوة هي انحياز إلى الاستعمار، وإن غُلّفت بأفكار مثالية براقة.
كذلك، ثمّة مَن يحاول تثبيط الهمم، وتقزيم الإنجازات المتحقّقة (بغضّ النظر عن المحصلة النهائية)، بنبرة البكاء على المدنيين في غزة الذين يدفعون ثمناً مهولاً لجنون آلة الحرب الإسرائيلية وعجزها عن مواجهة المقاومة. على أن المطلوب هنا ليس النواح واستجداء العطف، وإنّما الإمعان في صور الشهداء وأهاليهم، وتخزين هذا الألم غضباً وحقداً ليكون وقوداً وبوصلة وجود لكلّ منّا. كما يَجدر التذكّر دائماً بأننا آلمناهم أكثر ممّا يؤلموننا، علماً أن غالبية قتلاهم سقطوا بأسلحة فردية ومن مسافات قريبة، بينما إنجاز العدو يقوم على «عقيدة الضاحية» الانتقامية. وما يَجدر التذكير به، هنا، ما يورده منير العكش في كتبه من أحداث تدلّل على فداحة الأخطاء التاريخية التي ارتكبتها الشعوب الأصلية في الأميركيتَين، حينما اعتقدت أن عليها مقاتلة المستعمر الأبيض بالشيفرة الأخلاقية نفسها التي كانت تحكم صراعاتها البينية، وسلّمت نفسها للموت الأبيض «بكلّ ما آتاها الله من براءة». ويُضاف إلى ما تَقدّم كلّه، أن أولياء الدم المباشرين، أي أهالي غزة، يثبتون تشبّثهم بالمقاومة أكثر فأكثر بعد كلّ جولة، وهو ما يعود إلى أن ثلثَيهم من اللاجئين المتحدّرين من الأراضي المحتلّة عام 1948، ما يجعل أيّ حلّ لا يشمل تحرير أرضهم مرادفاً لإبقائهم في السجن الكبير على نحو أو آخر مهما «تحسّنت» ظروفهم. بتعبير آخر، كانت غزة وستبقى النقيض الوجودي لقلب هذه المستعمرة الأوروبية البيضاء.

خلاصة
المشروع الاستعماري القائم منذ أكثر من قرون خمسة على احتكار خطوط التجارة العالمية، والذي وضع أوروبا ومِن بَعدها أميركا في مركز التجارة العالمي عنوة، وهمّش الشرق بأكمله والمناطق العربية على وجه الخصوص، هو اليوم في خطر، من جراء التهديد الذي يتعرّض له الكيان الصهيوني، وآخر خطوط التجارة التي تخطّط لها أميركا كبديل من «طريق الحرير»، الأجدى اقتصادياً والذي سيعيد إلى منطقتنا دورها التاريخي الوسيط. وفي المقابل، تخوض غزة، ومن ورائها محور المقاومة، معركة وجود، ليس وجودها فقط، ولا الوجود الفلسطيني عامة، بل وجودنا الحضاري كعرب إلى جانب بقية شعوب المنطقة. وهكذا، فإن خيال القائد (أو القادة) الكامن وراء «الطوفان» يُظهر لنا بالملموس معنى «تمزيق العدم»، وقدرة الإرداة على تحويل المستحيل إلى ممكن، وأن القوة هي الوجود، أو وفقاً للراحل أمل دنقل: «ليست سوى أن تكون».