الحدث أضخم من أن يُقيّم، فيما أبعاده وتبعاته تتجاوز زمانه ومكانه بأشواط فلكية. من المؤكد أن العقل المدبّر العبقري وراءه (يرجّح أن ثمّة تفكيراً جماعياً ولو لعدد محدود من القادة خلف «طوفان الأقصى») يدرك أنه هزّ كيان العدو من وجدانه، مع الإشارة هنا إلى أن رمزية الاسم لا ترتبط بضخامة الحدث فقط، بل وأيضاً بأثره الجذري؛ فالطوفان في روايات الأديان السماوية الثلاثة وميثولوجيات المنطقة بأسرها، يدلّل على عصر ووجود جديدَين يمحوان ويغسلان ما قبلهما من ظلم وطغيان.
الحياة لمن يجرؤ!
الذهول أصاب الصديق قبل العدو: كيف استطاعت غزة، المحاصَرة لمدّة 18 عاماً، ضيّقة المساحة، كثيفة السكان، متعدّدة الفصائل، المراقَبة بكثافة من قِبل العدو والمخترَقة بالعملاء والمستعربين في أحيان كثيرة، أن تتجرّأ على هجوم من هذا النوع؟ ثمة مَن يحلّل المجال الجغرافي لهذا الحدث، وتعقيدات إجراءاته الأمنية والعسكرية، وصعوبة الاستطلاع المطلوب من أجله بالنسبة إلى قيادة حركة «حماس»، وخصوصاً أن اتّساع رقعته نسبة إلى مساحة القطاع، إضافة إلى تعدّد نقاطه ووسائله (جوّاً، برّاً، بحرّاً) تطلّبا قدرة هائلة على الاستطلاع، وقدرة أكبر على التخطيط، ودقة في التنفيذ... ولربّما، في مكان ما، كان العقل المخطّط يَتوقّع بعض الفشل هنا أو هناك، أي أن يجابَه المقاومون بقوة معاكسة، فلا تسقط كلّ المواقع بالسينمائية التي شهدناها.
كذلك، ثمّة مَن يقرأ في زمن الهجوم، وتحديداً في كونه أتى بعد خمسين عاماً من «حرب أكتوبر»، ليوقع العدو في حفرة مشابهة، حيث كان الأخير قد خفّف من جهوزيّته في «عيد الغفران»، في ما يمثّل أوضح دليل على أنه لا يزال يستخفّ بأعدائه. أمّا السرعة القياسية في التنفيذ، وسلاسة حركة القوات المقاتلة والتنسيق والتتابع في مختلف المراحل (إطلاق صواريخ، إنزالات، قتل وخطف، استيلاء على غنائم، تخريب للمعدّات وتدمير للمواقع العسكرية)، فهو أيضاً دليل على احترافية عالية في الاستطلاع والتخطيط والتنفيذ، لا بل يمكن القول إن السرعة تجلّي طول مدّة التخطيط التي حُكي أنها امتدّت لسنين. زد على ما سبق، التجهيز المسبق لاستبدال القوات وإعادة الانتشار، والتي تمّت على مدى أيام ثلاثة من دون مقاومة تُذكر من قِبل جيش العدو. ولئن بدا الهجوم في يومه الأوّل ضرباً من الخيال، فهو سيكون أصعب بمراحل في المرّتَين الثانية والثالثة، فيما لا نعلم كم مرّة سيسخر مقاومو غزة من وهن «بيت العنكبوت»، وكم مرّة سينفخون في الوهم لينثروه غباراً.
أيضاً، ثمّة مَن يقرأ في أثر الهجوم على العدو الصهيوني. ففي المقام الأوّل، مرّغت صورة جيشه واستخباراته وتكنولوجياته بالوحل؛ وفي المقام الثاني، جرى هزّ ثقة المجتمع الصهيوني بقيادته، وتفوّقها المعرفي، وقوتها العسكرية والأمنية والاستخبارية، كما وُضع المستعمِر في مواجهة صريحة مع نفسه قبل أيّ شيء، ولاضطرّ لأن يطرح على نفسه أسئلة جوهرية تحت النيران: هل تستحقّ هذه الأرض أن أموت لأجلها؟ هل تعني هذه الأرض شيئاً إن لم تعش الرفاه على حساب أصحابها؟ هل يمكن العيش في هذا المحيط الغريب من دون تفوّق (عسكري وعرقي)، وفي ظلّ تهديد متصاعد من جانب العرب سمر البشرة؟ لقد جاءت العديد من الإجابات من مطار بن غوريون، ومعبر طابا، والمهرولين في تيه الصحراء، والمجنّدين الهاربين، وأولئك الذين يَجرون إلى خطّ المواجهة عنوة وسط الصراخ والعويل.
وبخصوص هؤلاء، فيجب الالتفات إلى مسألة عسكرية مهمّة، إذ إن خوفهم هذا مبرّر، ومبرّر له أن يكون مضاعفاً لأنهم لم يكونوا على معرفة ميدانية بالمنطقة، إذ إن غزة قد استطاعت، في الساعات الأولى من الهجوم، تفتيت القوات العسكرية في محيطها وصولاً إلى تصفية القيادات، الأمر الذي خلق فراغاً ميدانياً واستخبارياً، ما يُعدّ من أسباب تأخُّر الردّ الصهيوني والشلل الميداني على الأرض، فيما تطلّب الردّ الجوي الكثير من الوقت، لكونه يعتمد على الهداية الميدانية المعطّلة في غياب الجنود وقادتهم. وهذه الفجوة بمثابة بقعة زيت ستتّسع إذا ما قُرِئ المشهد على رقعة جغرافية أوسع.
العدو في مأزق لا يحسَد عليه؛ فهو وجد نفسه في مواجهة مع غزة، لكن هذه المرّة تحت شروط المقاومة وبمبادرتها


العدو في مأزق لا يُحسَد عليه؛ فهو وجد نفسه في مواجهة مع غزة، لكن هذه المرّة تحت شروط المقاومة وبمبادرتها، إذ اختارت هي الانتشار الجغرافي والعسكري، وضمنت لنفسها التفوّق بتوظيف عنصر المفاجأة، ووضعته أمام حالة دفاع لم يَحسب لها حساباً في أيّ يوم سابق. فهو، في أسوأ السيناريوات، تَوقّع من غزة عمليات على الحدود، أو حوادث خطف عبر الأنفاق، أو أياماً قتالية صاروخية، كما أنه اعتاد الغلبة العددية تجاه أيّ تهديد أو مواجهة، لكنه لم يتحسّب يوماً لمواجهة قوات مجهّزة، وعلى «أرضه» (المسلوبة) هو. ولذلك، فان إرباكه في جبهة الجنوب، وعدم قدرته على سدّ ثغراتها، مرجّح الاستمرار، فيما المفارقة الطريفة أنه دأب على التحضّر لهجوم من «حزب الله» على الجليل، فإذ يفاجَأ بمقاومي غزة جنوباً على مشارف الخليل.
فوق كلّ ذلك، جيشه مستنزَف أصلاً في الضفة منذ أشهر، وهو يرفع عديده لقمع المقاومة الشعبية من دون فائدة، ولا يمكنه الخروج من هناك، وخصوصاً في ظروف كهذه، في حين كانت رسالة «حزب الله» الأولى بعد «الطوفان»، كفيلة بحجز جزء ضخم من القوات في الشمال، حيث الجبهة الأكثر تسلّحاً وإعداداً وإرعاباً للعدو. وعليه، كلّما تصاعد الوضع هنا (وهو ما بدأ يُسجّل بالفعل منذ عملية التسلّل التي نفّذتها «سرايا القدس»، وما أعقبها من عمليات قصف متبادلة بين المقاومة اللبنانية والعدو)، كلّما باتت استعادة السيطرة في الجنوب أصعب وأصعب، واكتسبت مقاومة غزة مزيداً من الوقت، وهامش مناورة للإمداد والتوسّع والاستمرار في الهجوم، خصوصاً أن صمت قيادة الحزب يضاعف إرباك العدو الذي لا يدري ما إن كانت المقاومة اللبنانية تدعم غزة بإشغاله شمالاً، أم أن «طوفان الأقصى» لم تكن إلّا افتتاحية جنوبية لحرب ينوي «حزب الله» ومحور المقاومة استكمالها. أيضاً، تَبرز في الإقليم المقاومتان اليمنية والعراقية، اللتان تهدّدان الوجود الأميركي في المنطقة وقواعده (وهو الذي يخطّط منذ سنوات لتهدئتها والتوجّه شرقاً) في حال تدخَّل ودعَم كيان العدو عسكرياً. وفي ظهر هؤلاء، الساحتان السورية والإيرانية، في تكامل سيرفع من كلفة التصعيد على الولايات المتحدة والكيان في آنٍ، وخصوصاً أن روسيا هي الأخرى تجد تعزيز الوجود الأميركي معاكساً لمصالحها، فيما أوروبا، المنهَكة اقتصادياً وعسكرياً، ستضطرّ للاقتطاع من جلدها لدعم العدو، وبخاصة أنها وواشنطن تعانيان من نقص حادّ في الذخائر.
أمّا أعظم إنجازات «طوفان الأقصى»، فأثرها على العقل والوجدان الفلسطينيَين والعربيَين، لناحية تعزيز الإيمان بالقدرة على هزّ أمن الكيان بأضعف الإمكانات. فمشهد أهالي غزة العابرين مع المقاتلين، وهم يخطفون ويقاومون بلا أسلحة وبأبسط الإمكانات، يفتح الباب على مصراعيه أمام خيال جيل كامل، لم يرَ وهن العدو فقط، بل وتلمّس قدرته الكامنة على إيذائه وتدميره. ولعلّ أكبر رافد، هنا، يمكنه أن يفجّر الوضع في وجه الاحتلال، هو تصعيد المواجهة العسكرية في الضفة، ونقلها إلى حالة الغليان، عبر مهاجمة المستوطنات كما حصل في طولكرم، والنقاط والحواجز العسكرية كما حدث في الجلمة، وملاحقة الجنود كما وقع في أبو ديس؛ إذ إن كلّ نقطة ستستنزف جيش العدو ميدانياً واستخبارياً ونفسياً، وستضاعف من أثر المقاومة، وستؤدّي بشكل جماعي إلى إنهاك العدو جسدياً وإدراكياً، وصولاً إلى هزم إرادته في النهاية. والحال نفسه ينسحب على الأراضي المحتلة عام 1948، ولكن على نحو مضاعف، حيث لكلّ فعل وزن مختلف يدقّ على الوتر الحساس، ويوقظ هواجس المستعمرين وكوابيسهم، كما أنه له القدرة على إرباك الجبهات كافة، واستبعاد أيّ إمكانية لاستخدام سلاح الجو أو العنف والتوحش المفرطَين. بالنتيجة، العدو حتى الآن فاقد للسيطرة في مناطق «الغلاف»، ولكن ماذا سيحصل إذا سادت الفوضى المناطق المركزية؟ ليس باستطاعة أحد تخيّل المشهد، ولكن الأكيد أن ثمّة حالة ذعر منطلقة من مخاوف تسكن العقل الصهيوني الباطن، من الفوضى، أو ما يسمّى «بلجان»، والتي يَجدر بفلسطينيّي الداخل أن يُذيقوا العدو كلّ أصنافه.
من الإنجازات الأخرى لـ«الطوفان» أيضاً، العدد الكبير من الأسرى الصهاينة، والذين يمكن توظيفهم في ملفّ تحرير الأسرى الفلسطينيين، أو لجم الاعتداءات على المسجد الأقصى، أو منع تمدّد الاستيطان في الضفة الغربية المحتلّة. ولكن ما يجدر التنبّه إليه، هو أن هذا الإنجاز قد لا يؤتي أُكُله، لأنه من الواضح أن قيادة العدو لن تكون مستعدّة لتقديم التنازلات لأجل استعادة جنودها، والآن مع ارتفاع عدد قتلى جيشها، قد تقرّر أن سوء الوضع غيّر قواعد الاشتباك. أيضاً، ثمّة مكمن خطر آخر، هو تمكّن الاحتلال من عزل المقاومين في محيط غزة في جُزُر، وأسر عدد منهم ليكونوا ورقة ضغط على المقاومة. مع ذلك، من المرجّح أن إدارة المعركة تحسب الحساب لهذه الاحتمالات، وقد تكون تجهّزت لمحاصرة القوات التي تريد عزل تلك الجزر، أو تمتلك خططاً منسّقة للانسحاب، أو التغلغل في الضفة ونقل الخبرات القتالية إلى هناك.