غزة | سيبقى يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ يوماً مشهوداً في التاريخ المعاصر، وستتوقف عنده النظريات العسكرية الإستراتيجية مطولاً، ستتفحص حيثياته لجهة المبادرة والصدمة والتوقيت والتنفيذ والخداع الإستراتيجي والإخفاق الاستخباراتي. فالمشهد يتعلق بواحدة من المعارك غير المسبوقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، التي جاءت في زمن واحدة من أكثر وأشد حكومات العدو استغراقاً في التطرف والبطش والعنجهية ظناً منها أنها تملّكت وتمكّنت فإذا بها تتبخّر على وقع الصدمة.قد يكون من المبكر استكشاف إحصائيات ما حدث لجهة عدد القتلى والأسرى والمصابين في صفوف العدو، لكننا أمام حيثيات تذهب كلها إلى أن المستوطنة المسماة تل أبيب قد هُزمت في وعيها العسكري والاستخباراتي؛ وشلّت قدراتها التقليدية وفوق التقليدية، ومقدراتها الدفاعية والجوية والهجومية باتت خارج الخدمة.
لم تكن الصدمة فقط في استبعاد توقع الهجوم من جبهة غزة المحاصرة منذ أكثر من عقد ونصف عقد، يلوّح لها الوسطاء بالخبز والتسهيلات ووعود السلام الاقتصادي لتبتلع التهدئة على مضض، فإذا بها تنهض من تحت ركام ما يزيد على سبع حروب وعقد ونصف عقد من الحصار المطبق، لتصنع معادلة عسكرية عابرة للحسابات الإسرائيلية من الدفاع إلى الهجوم.
السبت في عرف العدو الزمني الأسبوعي هو يوم إجازة، وأكتوبر في تقليده السنوي هو شهر الأعياد اليهودية، والتقديرات الاستخباراتية قد ركنت إلى وهم الهدوء، وفي أدق التفاصيل والروايات الأمنية الإسرائيلية كان السيناريو الأسوأ يذهب إلى أن المقاومة الفلسطينية لن تذهب للهجوم وإن ذهبت ستكون عقب صدمة ينفذها العدو على غرار كل المعارك السابقة، والمتاح أنها ستستخدم الأنفاق وتلك عطّلها الجدار العازل فوق الأرض وتحتها بعمق أكثر، وأن القبة الحديدية ستكون بالمرصاد للرشقات الصاروخية، وأن الأرض شرق غزة مكشوفة غرب الجدار الزائل بكيلومتر ونصف كيلومتر، وفي داخله مكشوف بمسافة من 2 إلى أربعة كيلومترات، والكاميرات والرادارات وطائرات الاستطلاع توفر الرؤية النهارية والليلية الكاملة والكافية، لن تتسلل نملة من غزة دون رصد. كل ذلك تبخّر وتعطّل ولم يعد مجدياً.
الهجوم بمبادرة فلسطينية يعني أن العدو فقد عنصر المفاجأة والصدمة والضربة الاستباقية معاً، وأن يقع الهجوم جواً وبطائرات شراعية لم تكن استخبارات تل أبيب أو واشنطن قد التقطت عنها إشارة واحدة، والسؤال الإستراتيجي المطلوب الإجابة عليه من أقوى أجهزة الاستخبارات العالمية والمحلية، كيف صُنعت هذه الطائرات؟ ومتى صُنعت؟ وأين تم التدرّب عليها؟ وكيف خرجت من غزة التي لا تزيد مساحتها على 365 كلم مربعاً وعمقها من البحر إلى السياج الشرقي لا يتعدى في أفضل مسافاته ومساحاته 14 كلم.
لم تكن الخديعة الإستراتيجية في تمرير أن المقاومة في غزة قد تقبل بالتهدئة المجانية، وتترك العدو يستفرد بالضفة الغربية والقدس، فهذا يتعارض مع أبجديات وحدة الساحات تلك المعادلة التي خطّتها المقاومة الفلسطينية وثبّتتها في معادلة الاشتباك والمشاغلة. الخديعة أن المراكمة التي تبنّتها حركة «حماس» أفضت إلى ما لم يتخيله العقل الاستخباراتي الصهيوني، على وقع الهجوم الجوي والبري والبحري واختراق العمق لأكثر من 40 كيلومتراً.
الصورة والبث المباشر جزء مركزي من المعركة، وهنا فقد العدو خاصية الإخفاء التي يستخدمها في كل المعارك ولم يعد بمقدوره أن يقول لا قتلى، فهذه المرة القتلى والأسرى هم من كبار الضباط وصفوة الجيش ونخبته، الذين يفترض بهم حماية جبهته الداخلية، فإذا بالفشل يتملّكهم حتى في حماية أنفسهم.
معركة «طوفان الأقصى»، في تداعياتها، تعني أن تل أبيب لم تعد آمنة، وأن وعود نتنياهو وحكومته مجرد وهم من سراب، وأن غزة كساحة أولية قادرة على قلب المعادلة والموازين وأخذ كل هذا العدد من الأسرى في معركة مستمرة وممتدة على مدار أكثر من 20 ساعة ولا تزال وقد فشل العدو حتى في قطع الطريق على إمدادها وإسنادها.
حفرت هذه المعركة عميقاً في الوعي الصهيوني، ودولة الجيش أعلنت ارتباكها عندما فرّ جنودها بين قتيل وجريح وأسير ولم يكن الأمر يقتضي أكثر من إدارة محرّك الدبابات والمدرعات التي تُركت كغنائم حرب للمقاومة الفلسطينية التي اعتلتها ورفعت فوقها أعلام فلسطين.
هذه المعركة أنهت التاريخ السياسي لحكومة نتنياهو التي جاءت بأجندة أمنية بحت على قاعدة يمينية متطرفة متعهّدة ومتوعّدة بإنهاء الوجود الفلسطيني وترويض المقاومة، فإذا بها تصحو على وقع هزيمة مدوّية تاريخية في كل تفاصيلها وإستراتيجية في كل نتائجها. وبدلاً من تصدير أزمتها الداخلية صوب غزة صدّرت لها غزة أزمة جديدة لن تتعافى منها إلا بالسقوط.
ستوقف هذه المعركة، أو تعطل على أقل تقدير، هرولة بعض العواصم العربية إلى مستنقع التطبيع، وتعطل مخططات واشنطن من جعل تل أبيب رأس حربة في المنطقة تقودها وتفرض أجندتها، فالقوة المزعومة تهاوت أمام مجموعات المقاومة الفلسطينية المسلّحة ببنادق آلية وبضعة رشاشات، والتساؤل هل ستصمد البقرة المقدّسة أمام نيران ساحات المحور، التي كان نتنياهو يهددها ويتوعدها؟والإجابة تقدمها معركة «طوفان الأقصى».
كشفت المعركة الحاصلة أن بنك الأهداف الإستراتيجي والاستخباراتي للعدو لا يعدو كونه صفراً كبيراً، فبعد الهزيمة المدوّية والبحث عن الردع المتآكل وتحقيق غريزة القتل والانتقام خرج العدو لقصف الأبراج السكنية والمساجد والبيوت على رؤوس قاطنيها ولم يعطل مرابض الصواريخ والهواوين ولم يمنع الرشقات الصاروخية.

* كاتب فلسطيني