«هدوء ما قبل العاصفة»، «هدوء مخادع»، «العاصفة أصبحت هنا»، «الانتفاضة الثالثة على الأبواب»، «انتفاضة من نوع جديد»... بهذه العبارات، يصف المحلّلون العسكريون الإسرائيليون الوضع في الضفة الغربية المحتلة. يدُرك هؤلاء ومِن خلفهم مصادرهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، أن النار بدأت تستعر، وأن أيام الاقتحامات والاعتقالات «الهادئة» ولّت. مثلاً، كانت عملية اقتحام قبر يوسف في نابلس تتطلّب في الماضي كتيبة أو اثنتَين على الأكثر من أجل تأمين دخول المستوطنين إلى الموقع، أمّا اليوم فيخصِّص لواء «السامرة» أربع كتائب على الأقلّ، من بينها واحدة من النُخبة، فيما يرافق كلَّ اقتحام إطلاق نار كثيف واشتباك من مسافة قريبة، أدّى في إحدى المرّات إلى إصابة قائد اللواء الإقليمي، العقيد روي زويغ. كذلك، يُدرك قادة العدو أن بعض مناطق الضفة خرجت عن سيطرة أجهزة السلطة الأمنية، وأن الجيل الفلسطيني الجديد ليس كَمَن سبقه، إذ إن أبناءه، كما وصفهم الخبير الأمني آفي يسسخروف، «أكثر شجاعة، ويسعون إلى القتال، ويرفضون الاستسلام بسهولة». هذا الجيل عيْنه يصفه أحد مؤسّسي «كتائب شهداء الأقصى» (الذراع العسكرية لحركة فتح) في عام 2000، جمال حويل، في حديث إلى «الأخبار»، بأنه «جيل المستحيل الذي يقاوم في ظروف قاسية وصعبة جدّاً، ومن هنا تأتي عظمة هؤلاء المقاومين الذين يقاتلون في ظرف يُحارَبون فيه مالياً وعسكرياً ولوجستياً وحتى سياسياً». بحسب المحلّل العسكري لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوسي يهوشع، «سُجّل ارتفاع في العمليات التي تستهدف قوات الجيش الإسرائيلي عند تنفيذها اعتقالات، لتصل إلى أكثر من 220 عملية إطلاق نار منذ بداية السنة فقط، وهو ضِعف ما حدث في السنة الماضية تقريباً. في المقابل، قُتل إلى الآن 85 فلسطينياً، أغلبهم مسلّحون. وبحسب الشاباك، فإن مقتل هؤلاء يجرّ إلى توتّرات أخرى، ولذا، فهذا الأسلوب من العمل أيضاً لا بدّ من تمحيصه». وأَجبر هذا الواقع رئيس هيئة أركان العدو، أفيف كوخافي، على وضع ألوية نظامية بالقرب من فتحات جدار الفصل العنصري في ما عُرف بعملية «كسر الأمواج». كما أَجبره على اتّخاذ إجراءات عسكرية «متطرّفة» مِن مِثل إدخال الطائرات المسيّرة في دائرة الاستخدام في الضفة. لكن على رغم تلك الإجراءات، إلّا أن حالة الغليان لا تزال على حالها، وتسلك مساراً تصاعدياً، وهو ما يؤرق أجهزة الاحتلال الأمنية والعسكرية. وبحسب المحلّل العسكري لصحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، فإن «الجبهة الأساسية التي ستؤثّر على الاستقرار في الأشهر القريبة القادمة هي الضفة الغربية. هنا الأمور مقلقة أكثر».
تُواصل فصائل المقاومة في الضفة إعادة تنظيم نفسها


إزاء ذلك، يرى عضو «المجلس الثوري لحركة فتح» وأحد قادة معركة مخيم جنين عام 2002، جمال حويل، أن «ما تمرّ به فلسطين والضفة الغربية وجنين التي أشعلت فتيل المقاومة، يمثّل نقطة تحوّل، ويعيد الأمور إلى مسارها». ويَلفت حويل، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «الاحتلال حاول، عبر عملية كاسر الأمواج، منْع هذه الموجة من الانتقال إلى أماكن أخرى، لكنها انتقلت إلى البلدة القديمة في نابلس ومخيم بلاطة وسلواد». وتعيش الضفة، اليوم، أوضاعاً شبيهة بتلك التي مرّت بها عشيّة انتفاضة الحجارة عام 1987، وقبيل انتفاضة الأقصى لعام 2000؛ إذ إن استمرار تهويد القدس والتنكيل بالأسرى، بالإضافة إلى «محاولة ضرب النسيج المجتمعي من خلال تحكّم الإدارة المدنية بالشعب الفلسطيني وعدم وجود أفق سياسي حقيقي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، وسعي العدو لتحويل الشعب إلى وكيل أمني له»، كلّ هذه الأسباب تجعل «المقاومة مستمرّة... هذا ما رأيناه قبل انتفاضة الحجارة وانتفاضة الأقصى، والآن الإرهاصات هي نفسها»، بحسب حويل. وفي مقابل تشابُه الظروف، يبدو الواقع السياسي الحالي مختلفاً؛ «إذ حينذاك كانت هناك وحدة وطنية ووحدة جغرافية، وياسر عرفات كان داعماً للمقاومة، وكلّ فصائل العمل الوطني وفّرت غطاء سياسياً ووطنياً لكلّ المقاومين». أمّا الآن، «فالانقسام حادّ، ولا يوجد غطاء سياسي، وبالتالي الجيل الحالي يعمل في ظروف مستحيلة، وهو ما يبعث الأمل» كما يرى القيادي «الفتحاوي».
وعلى رغم تنامي المزاج الشعبي المؤيّد للمقاومة المسلّحة في الضفة، تصرّ السلطة على المضيّ في سياسة «التنسيق الأمني»، وآخر وجوهه عقْد اجتماع بين مسؤولين أمنيين إسرائيليين وآخرين فلسطينيين، هدَف إلى التباحث في كيفية «إعادة تفعيل دور الأجهزة الأمنية الفلسطينية في الضفة، وتحديداً في منطقة نابلس، من أجل منع التدهور الأمني». وفي هذا الإطار، يرى حويل أن «للسلطة تفسيرات خاصة بها، فهي وقّعت اتفاقية مع الاحتلال، وأثبتت أن العدو غير ملتزم بها أو بالقرارات الدولية، والحلّ بالنسبة إليها هو المقاومة الشعبية السلمية». ويضيف إن «السلطة لا تستطيع خوض مواجهة كلاسيكية عسكرية مع الاحتلال، لأنها قد تتعرّض لضغوط أكبر ممّا تعرّضت له عام 2002، ولذلك هم يؤكّدون على المقاومة الشعبية السلمية، لكنّني أختلف مع هذا النهج وأقول بأن المقاومة الشاملة هي طريق الحرية».
في خضمّ ذلك، وفي ظلّ سعي العدو لخفض التوتّر في الضفة، تصاعَدت بعض الأصوات المطالِبة بتخفيف وتيرة الاعتقالات والاقتحامات. إذ سخِر المحلّل العسكري لصحيفة «معاريف»، ألون بن دافيد، من «حماسة جنود الاحتلال لدى اقتحامهم الضفة»، قائلاً: «في كلّ ليلة، يبعث قادة عسكريون بعيون لامعة، مئات المقاتلين لاعتقال مطلوبين فلسطينيين في عمق المناطق. كلّ حملة تحظى بوصْف بطولي، وكأنها احتلال جبل الشيخ، وكلّ فتى ابن 18 عاماً من القصبة يحظى بلقب مخرّب كبير». وأضاف بن دافيد إنه يمكن «تفهُّم القادة العسكريين الصغار، فالألوية القتالية للجيش الإسرائيلي لم تجتزْ حدوداً منذ سنين، والاعتقال في المناطق هو درّة تاج النشاط العملياتي الذي يشهده المقاتلون». أمّا عن أداء جهاز الأمن العام، فيقول: «في الشاباك يُقسمون بأن كلّ الاعتقالات التي تُنفَّذ ضرورية. لكن ليس كلّ مخرّبٍ قنبلةً متكتكة (وصف يُطلق على مَن ينوون تنفيذ عمليات)، وليس حُكم خليّة خرجت لتنفيذ عملية إطلاق نار في مستوطَنة إسرائيلية كحُكم مسلّح أطلق النار على قوات الجيش الإسرائيلي عندما دخلوا حيّه. ثمّة أولئك الذين ينبغي اعتقالهم على الفور، وثمة مَن يمكن اعتقالهم بعد أسبوع أيضاً».
على المقلب المضادّ، تُواصل فصائل المقاومة في الضفة إعادة تنظيم نفسها، بالإضافة إلى تشكيل مجموعات سرّية على شاكلة «فرسان الليل»، التي كانت ضمن «كتائب الأقصى»، وهو ما يحظى بتأييد شعبي واسع. وفي هذا الإطار، يقول حويل إن «القاعدة الفتحاوية موقفها واضح جدّاً، وقد عبّرت عنه مسيرات الشهداء المتكرّرة في جنين ونابلس، وآخرها مسيرة الشهيد القائد إبراهيم النابلسي، وهو الالتفاف الكبير حول خيار المقاومة والمواجهة»، وخصوصاً أن «الشعب الفلسطيني يدرك أن الاحتلال لا يريد سلاماً أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، بل يريد استعبادهم وجعلهم وكيلاً أمنياً». وفي الاتّجاه نفسه، تَلفت والدة الشهيد إبراهيم النابلسي، هدى جرار، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن «تفاعُل الشعب الفلسطيني مع استشهاد إبراهيم كان بمثابة استفتاء على نهج المقاومة ورفض للتطبيع والتنسيق مع المحتلّ الغاصب».