عمان | بينما كان بطريرك الرئاسة الكنسية الأرثوذكسية المقدسية، التي تمتدّ على أراضي الأردن وفلسطين، ثيوفيلوس الثالث، في ضيافة عبد الله الثاني، شرق النهر، ضمن وفد يضمّ أعضاء مجلسَي أوقاف القدس وكنائسها، وشخصيات مقدسية وأخرى من الـ48، كانت «المحكمة العليا» الإسرائيلية تنظر في استئناف رئاسة الكنيسة بخصوص عقارات «باب الخليل». مراجعةٌ أفضت إلى خسران البطريركية القضية، وثبوت «تواطؤ» ثيوفيلوس و«تآمره». أصدرت «المحكمة العليا» الإسرائيلية قرارها النهائي برفض استئناف البطريركية الأرثوذكسية بخصوص عقارات «باب الخليل»، المُكوّنة من فندقَي «إمبريال» و«بترا» و«مبنى المعظمية»، داخل أسوار البلدة القديمة في القدس المحتلة. القرار، الذي جاء بعد 14 عاماً من الكشف عن القضية التي رفعها مستوطنون يمثلون شركات مقرّبة من جمعية «عطيرات كوهانيم» لتثبيت «حقوقهم» في إيجار العقارات الثلاثة، يلغي ملكية البطريركية العربية لها. وبذلك، تؤول هذه العقارات إلى المستوطنين. ووفق إجراءات المحاكمة على مدار سنوات، على 22 مستأجراً عربياً يشغلون هذه العقارات التزام أي قرار يصدر عن المحكمة الإسرائيلية، وفق ما أمرت به الأخيرة في كانون الأول/ ديسمبر 2009.
للوهلة الأولى، يكاد المرء يضيع وسط التفاصيل الكثيرة للقضية، التي ترجع إلى عهد البطريرك المخلوع إيرينيوس الأول، لكنه سرعان ما يعي أن القضية سياسية بامتياز، وأبعد ما تكون عن «نزاع عادي» على ملكية عقارات، إذ تلعب فيها أطراف ودول في توقيت حساس، حيث الأعصاب مشدودة في انتظار ما ستؤول إليه ترتيبات الخطة الأميركية، المُسمّاة «صفقة القرن». فالقضاء الصهيوني، لسبب ما، يريد تسليط الضوء على آلية البطريركية في التعامل مع ملف العقارات في قضية «باب الخليل»، بل يبدو الأمر كأنه أقرب إلى محاولة بثّ فتنة داخلية بين المسيحيين الأرثوذوكس في فلسطين المحتلة، خصوصاً في ظلّ الإشكالات المحيطة بـ«النضال» الرامي إلى تعريب البطريركية ذات المرجعية اليونانية.
ثمة من يرى أن الموضوع خرج من يد «بطريرك القدس المقدسة وكل فلسطين وإسرائيل»، ثيوفيلوس الثالث، الذي يقول إنه يفعل ما يمكن للمحافظة على أملاك البطريركية، في حين تتجه أصابع الاتهام إليه، بوصفه متساهلاً وربما متورطاً. ولعلّ من سخرية القدر أن يتساءل القاضي الإسرائيلي، في قرار المحكمة، عن مصلحة البطريركية في بيع أملاك في موقع بالغ الحساسية مثل البلدة القديمة، ولماذا تجري هذه الصفقات في الخفاء (كما ورد في محضر جلسة الحكم)؟! يطرح القاضي هنا إجابتين محتملتين: «الأولى، الوضع المادي للبطريركية آنذاك، حين احتاجت إلى مصدر دخل من أجل الدفعات الشهرية الجارية. والثانية، السياسة الداخلية المتعلقة بالصراع بين التيارين العربي واليوناني في البطريركية، ولذلك تمت الأمور سراً، خاصة مع الحساسية المتعلقة ببيع أملاك البطريركية عامة، وفي القدس القديمة خاصة».
استغرب القاضي الإسرائيلي طريقة إدارة البطريركية للملف


يسترسل القاضي، في قرار المحكمة الصادر الإثنين الماضي، في تبيان تخاذل البطريركية، إذ يلفت إلى أن أي طرف من الرئاسة الكنسية لم يقدّم ــــ لسبب غير معروف ــــ أي شكوى في الشرطة ضد نيكولاس ببيديموس (مربط الفرس في تسريب العقارات)، وهو مدير الدائرة المالية في البطريركية، وكان يملك وكالة عدلية من البطريرك المخلوع (إيرينيوس)، قبيل عقد اتفاقات مع ثلاث شركات لتأجير العقارات الثلاثة 99 عاماً، مع إمكانية تمديد كل عقد. وكان إيرينيوس قد اتهم ببيديموس بخداعه بعدما كُشف أمر التسريب عام 2005. هنا، يقارن قاضي «العليا» الإسرائيلية جدية الرئاسة الكنسية الحالية في كشف الفساد والاحتيال في تسريب العقارات، بحادثة مماثلة لتسريب عقارات معروفة بقضية «رحافيا-الطالبية»، حدثت أيام البطريرك ذيوذوروس الأول في نيسان/ أبريل 2000، أي قبل نحو أربع سنوات من صفقة «باب الخليل». يقول القاضي: «(آنذاك) عرفت البطريركية كيف تتصرف بجدّيّة لإلغاء القضية (ما أدى إلى تقديم دعاوى جنائية وإدانة المتهمين في عملية الاحتيال)....»، أما في هذه القضية، فـ«لم تتكلف البطريركية سوى عناء تقديم شكوى إلى الشرطة، وهو ما يثير الكثير من الاستغراب (الآن)».
يذهب القاضي الإسرائيلي أبعد من ذلك، ويقول: «في مرحلة متقدمة في المداولة، أهملت البطريركية قسماً من ادعاءاتها ضد قانونية الصفقة، ومن بينها الادعاء الأساسي بعدم وجود تصديق من المجمع الكنسي، وتركزت المداولات في ادعاء تقديم رشوة إلى ببيديموس... عبر أدلة ضعيفة». ويتابع: «لا تستغرب (المحكمة العليا) قبول الدعوى (دعوى المستوطنين بأحقيتهم في الأملاك) ورفض دفاع البطريركية»، مختتماً: «شخصياً، أعتقد أن خفايا الأمور كلها لم تكشف أمامي أو أمام المحكمة المركزية، وأن هناك ظلالاً وثقوباً سوداء في الإجراءات التي أدت إلى عقد الصفقات، وتبقى هذه التحريات من مسؤولية البطريركية، الأمر الذي لم تفعله».


في المقابل، لم تطلب البطريركية شهادة أيّ من البطريرك المخلوع إيرينيوس المقيم داخلها، أو المدير المالي ببيديموس، مع أن الأخير قدّم طلباً إلى المحكمة لتبرئة شخصه، لكن البطريركية رفضته. أما الأوساط الأرثوذكسية في الأرض المحتلة المناهضة لثيوفيلوس (الحالي)، فأصدرت بياناً مشتركاً باسم «المنظمة الأرثوذكسية الموحّدة» (ج.م.)، و«مجموعة الحقيقة الأرثوذكسية»، قالتا فيه: «لقد أثبت هذا القرار تواطؤ وتآمر ثيوفيلوس ومَجمعه الفاسد في جريمة تسريب أوقاف باب الخليل، التي ستعقبها جريمة جديدة من المستوطنين في محاولاتهم إخلاء قاطني هذه العقارات من الفلسطينيين العرب». البيان اتهم ثيوفيلوس، أيضاً، بتسريب آلاف الدونمات في القدس وقيساريا ويافا والرملة وطبريّا والناصرة وحيفا لجهات صهيونية. وأضاف: «الجمهور العربي لم يتوقع من الإكليروس اليوناني المتواطئ دائماً مع السلطات الإسرائيلية حماية أيّ وقف كان بعد أن ثبت تآمر بطاركتهم السابقين وأعضاء مجامعهم الفاسدة على كنيستنا وعروبتنا ومستقبلنا»، خاتماً بتحميل المسؤولية الأعلى في هذه القضية لـ«اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس»، والسلطة الفلسطينية، والقيادة الأردنية «الوصية على المقدّسات».
بناءً على ما تقدم، تتأكد صحة الانتقادات التي يوجّهها العرب الأرثوذكس إلى طريقة التعامل مع الملف القانوني، وحديثهم عن أن ثمة تهاوناً وتواطؤاً من كل الأطراف: المجمع الكنسي والسلطتان الفلسطينية والأردنية، حتى صار الحديث في شأن الكنيسة من المواضيع الحساسة، فيما تمارَس ضغوط على المعارضين لسياسة البطريرك وداعميه، حتى الذين هم خارج فلسطين المحتلة.


ماذا عن صمت الأردن؟
يحاول عبد الله الثاني حشد أكبر قدر ممكن من الداعمين لوصايته الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس المحتلة. وكان ثيوفيلوس الثالث من الشخصيات التي ساندته خلال «المبايعة الإعلامية» له بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، القدس «عاصمة لإسرائيل»، وما تلاه من ضغوط على المملكة وعلى عبد الله شخصياً، كما ردّد هو أكثر من مرة، في موضوع القدس.
حتى الآن، لا موقف معلناً للأردن بخصوص قضية عقارات «باب الخليل» التي تعتبر ــــ وفق إدانات المحكمة الإسرائيلية للكنيسة ــــ تجاوزاً للدولة الأردنية التي يحمل ثيوفيلوس جنسيتها وفق البروتوكول المعمول به. وإذا كانت عمّان قد تحرّكت وخلعت البطريرك السابق بالتعاون مع السلطة الفلسطينية و«المجمع الكنسي»، فكيف يُسمح بالاستئناف الهزيل للقضية فيما تُغيّب نتائجه إعلامياً؟ إلا إذا كانت الاحتجاجات على البطريرك السابق التي رعاها الأردن، واتخاذه على إثرها إجراء فورياً بحق إيرينيوس، مقدّمة لجلب ثيوفيلوس الذي كان آنذاك مقيماً في قطر، علماً بأنه مقرّب من شخصيات أمنية في الإدارة الأميركية.
أسئلة كبيرة تواجه الأردن في قضايا التسريبات العقارية للأوقاف المسيحية، وهل يجري الماء من تحت أقدام المملكة من دون أن تشعر به، أم هي على علم بما يجري وتريد ممارسة دور الرعاية لا السيادة، وهو دور لن تمانعه إسرائيل، بل سيزيد شرعيتها كصاحبة سلطة حقيقية على أرض فلسطين، إذ تسمح لملك هاشمي برعاية أماكن محدودة في المدينة المحتلة تحت رقابة شرطتها، ما يعني من جهة أخرى عدم جدية عمّان وعدم جاهزيتها لمواجهة «صفقة القرن».