مع أن طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة يبقى دون الحد الأدنى المؤمل من دولة بحجم تركيا وهويتها وموقعها ودورها، في مواجهة مجازر العدو الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، لكن في ظل حالة التخاذل والتآمر العربي على الشعب الفلسطيني، يصبح حتى هذا الحد مقبولاً ومرحّباً به، على قاعدة القليل خير من الحرمان. ومع أن أحداً في تل أبيب، وخارجها، لا يتوقع أن يرتقي الموقف التركي إلى حد سحب الاعتراف بإسرائيل وصولاً إلى مستوى تقديم الدعم «الجدي» للشعب الفلسطيني لمواجهة العدوان المتواصل، لكن ردود الفعل الإسرائيلية على الخطوة التركية عكست حالة الغضب التي سادت في تل أبيب لطرد سفيرها، وهو ما انعكس في كلام رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو الذي اعتبر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان «ملم جداً بالإرهاب وبارتكاب المجازر، أنصحه بألا يعطينا دروساً في الأخلاق». ويبدو أن التراشق بينهما، وما رافقه من خطوات طرد متبادل، (طرد القنصل التركي العام حسنو غوركان ترك أوغلو، ممثل تركيا لدى السلطة الفلسطينية)، رفع أيضاً مستوى القلق في تل أبيب من مآلات هذا المسار وما قد يترتب عليه حتى لو بقي تحت السقف الاستراتيجي الذي يتلاءم مع كون تركيا دولة في حلف شمال الأطلسي. وبدا هذا القلق جلياً في التوصيف الذي أدلى به مصدر رفيع شارك في الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية بين إسرائيل وتركيا، كما نقلت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بالقول: «لقد وصلنا إلى حافة الهاوية. وأنا أنصح الطرفين بعدم القفز». ودعا معلق الشؤون السياسية في الصحيفة، شمعون شيفر، إلى «ضرورة استحضار العديد من الحقائق قبل تحطيم الأدوات مع أنقرة، التي توضح خلفية وضرورة عدم إغلاق الأبواب». ولفت إلى أن نتانياهو وافق قبل عامين، على رغم معارضة العديد من الوزراء، على دفع 21 مليون دولار لعائلات القتلى الأتراك في قافلة الحرية (سفينة «مرمرة»). وأدى الاتفاق في حينه إلى مصالحة بين البلدين، حيث وعد الأتراك بالامتناع عن رفع دعاوى قضائية ضد الجيش الإسرائيلي والجنود المشاركين في الاستيلاء على السفينة التركية. وأضاف شيفر أن «جزءاً كبيراً من إمدادات النفط إلى إسرائيل تتدفق إلينا عبر خطوط أنابيب تمر عبر تركيا. أضف إلى أن تركيا تستجيب لطلبات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وتمنع قادة حماس وغيرهم من شن هجمات ضد أهداف إسرائيلية حول العالم، هذا فضلاً عن أن لدى إسرائيل مصالح اقتصادية مهمة جداً تشجع الحكومة التركية على التعاون فيها». وربط شيفر خلفية موقف أردوغان الغاضب بكونه يحاول «سرقة العرض» على الحرم القدسي من الفلسطينيين والأردنيين.في المقابل، لوَّح السفير الإسرائيلي المطرود من أنقرة، ايتان نائيه، بالرد على ذلك عبر رفع مستوى الضغط على أهالي قطاع غزة المحاصرين. وكشفت «القناة الثانية» العبرية عن أن نائيه أبلغ مسؤولين في وزارة الخارجية التركية، خلال استدعائه للتوبيخ على المجزرة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق المتظاهرين المدنيين في قطاع غزة، أن المبادرة التركية لخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل ستؤدي إلى الإضرار بقدرة تركيا على تقديم المساعدات الإنسانية لأهالي القطاع المحاصر، وسيضر بالقدرة التركية على التأثير والمشاركة في القضية الفلسطينية. وهو ما أكده مسؤول إسرائيلي رفيع، أبلغ مسؤولين أتراكاً أنه «سيكون من الصعب على إسرائيل التعامل مع الطلبات التركية، بما في ذلك نقل المساعدات إلى غزة، من دون تواجد فعلي للسفير الإسرائيلي في أنقرة وسفير تركي في تل أبيب». ويؤشر الربط بين المسألتين إلى مسعى إسرائيل بتحويل العلاقات الدبلوماسية إلى أداة ابتزاز تساوم في مقابلها على تمرير مساعدات غذائية لمدنيين محاصرين، في حين أن إسرائيل هي الأحوج إليه، والأكثر استفادة منه على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاستراتيجية.