تخاصمت إحدى قريباتي مع زوجها، واشتكته إلى والدها. لكنّ الوالد أمرها بالعودة إلى بيت زوجها فوراً. وحين التقى الوالد بالزوج، نصحه باحترام حقوق زوجته، وحذّره أنّه لا يريد أن يحرّض ابنته (الزوجة)، لتطلب الطلاق. قبل الزوج النصيحة وزعم أنّ إحدى الجارات تحرض زوجته.بفضل هذه الواقعة، شرحت الدستور لنفسي. والكثيرون قالوا نعم للدستور، أي لخطّة الأب. الزوجة هي الشعب والزوج هو النخبة. وهما غير قادرين على حلّ مشاكلهما بنفسيهما. وقد رأينا ما حصل للشاعر صلاح الوديع وعبد الحميد أمين ووزير المهاجرين.
لا يناسب هذا الشرح مواطناً في دولة القانون. لكن، أين هي دولة القانون أصلاً؟
هل هي قائمة في المغرب، حتى نُعدّها مرجعاً نتصرف على أساسه؟ لنسمّ الأشياء بأسمائها. نسبة كبيرة من الاقتصاد المغربي غير مهيكلة. وكذلك الحقل السياسي الذي تسوده بنى ما قبل الدولة. وعلاقات القربى في المغرب هي أهم العلاقات الاجتماعية، بينما التنظيمية الحزبية والنقابية هشة، لذا أستخدمها هنا للمقارنة.
هي علاقات تخترق الأحزاب والنقابات، لذا يورث الزعيم حزبه وجريدته لولده. الزعيم نفسه يطالب الدولة بالديموقراطية، فكيف يطالب الغارق في علاقات القرابة بعلاقات تعاقدية تنظيمية في الدولة؟
هناك أزمة عميقة في الثقافة السياسية. أزمة وضوح. والنخبة السياسية لا تملك نموذجاً تدافع عنه، وهي تكتفي بالنفي، بنفي النماذج السائدة.
حسب الدستور المغربي الجديد، سيتولى الوزير الأول مسؤولية الحكومة، ومسؤولية التعيين في المناصب العليا. وسيتولى البرلمان التشريع. وسيختص الملك بالحقل الديني (لينعم الإسلاميون بإمارة المؤمنين) والأمني (لكي لا نعود إلى عصر السيبة).
إلى هنا كل شيء رائع. فقط هناك أمر مسكوت عنه، وهو خيار احتياطي لا يتوفر للأسرة النووية، بينما يتوفر للأسر الممتدة.
لا بد في نظام القرابة من طرف ثالث، من الوصي، داخلي أو خارجي.
في حالة النزاع بين الحكومة والبرلمان، سيتدخل الملك. هذا المسكوت عليه هو الذي حرض المقاطعين والمعارضين للدستور. وهم لا يرون حكمة محرري الدستور في ترك غموض احتياطي لمصلحة الاستقرار. أنا ضد الغموض، لكن أحتاج إليه أحياناً. هكذا فكر محررو الدستور، ومنهم عبد اللطيف المنوني وعبد الله ساعف. وبما أنني أدّخر حماتي كمخزون احتياطي لتحل بعض المشاكل بيني وبين ابنتها، فقد قدرت أنّ ذلك ينطبق على الدولة المغربية أيضاً.
بناءً على هذا القياس، صوّتت بنعم. واضح أنّ تصويتي ليس نابعاً من مزاج شخصي، بل من تحليل للثقافة السلوكية للمجتمع. من هيمنة آلية القرابة على كل شيء. رحم الله كلود ليفي ـــــ ستراوس.
إنّ تدخل الأقارب والأصهار، يمتص الصدامات، ويقلل نسب الطلاق. كما أنّ تدخل الجارات يعقد المشاكل، وخاصة إن كن جارات انتقائيات. إليكم نموذج حي:
«استغلالُ بيوت الله للدعاية لمشروع الدستور الممنوح، وحضّ المصلّين على التصويت بـ«نعم»، لأنّ الأمر، حسب نصّ الخطبة الرسمية الموحدة المعمّمة على الخطباء، استجابةٌ لوليّ الأمر، الذي طاعَتُه من طاعة الله ورسوله. وهذا يعني أنّ المواطن الذي سيقول «نعم» هو مطيع لله ورسوله ولوليّ الأمر، ومن ثَمَّ فهو من أصحاب الجنة الفائزين، وأنّ المواطنَ الذي يقول «لا» هو عاصٍ لله ورسوله ولوليِّ الأمر، فهو إذاً من أصحاب النار الخاسرين».
واضح أنّ كاتب تلك السطور يحتجّ على استغلال الدين في السياسة، وهو بذلك ينطلق من كونهما منفصلين. لكن هذا غير صحيح بالنسبة إليه، فهو علماني فقط عندما يستخدم الآخرين الدين، أما عندما يستخدمه هو فلا جناح عليه.
وبما أنّ صاحب الاستشهاد هو عبد العالي مجذوب، أحد نشطاء جماعة العدل والإحسان، فالجارة لا تفعل في بيتها ما تنصح به جيرانها. وجماعة العدل والإحسان لا تتدمقرط هي، وتعطينا درساً أولاً، ثم تطلب من النظام أن يتدمقرط. والجماعة تمارس السياسة بالدين، وتلوم السلطة على ذلك. هذه جارة غير واضحة. وبما أنّ الغموض يوجد في العقول، فلا بد من وجوده في الدستور.
لنر جارة أخرى، وهي حركة «20 فبراير». فقد أرادت تشويه سمعة المحامي الصريح محمد زيان، وهكذا تعرض شاب للضرب، وأصبح جثة هامدة على الأرض. التفسير الفوري أنّ زيان بلطجي. التفسير الثاني أنّ زيان في سن الستين ويتمتع بقوة بدنية رهيبة أكثر من شاب في الثلاثين. فأين بذر الشاب قوته، في الحشيش؟ التفسير الثالث أنّ زيان لم يضربه وحركة «20 فبراير» لجأت إلى الكثير من «التبوحيط السياسي» (محاولة الظهور بمظهر الضحية لاستدرار العطف) الذي مسّ بشرعيتها. في مدن عدة، يتظاهرون في محور طرقي ويوقفون تدفق السير.
تلك الانتقائية، وهذه الألاعيب تهيمن على الحقل السياسي المغربي، وعلى الذهنية المغربية. إنّه الغموض كاحتياط. تطلب من مغربي متى نلتقي. يقول لك: غداً إن شاء الله. لا يذكر ساعة محددة، لذا يجب أن تنتظره نهاراً بكامله، وغالباً لن يحضر لأن الله أراد، وهو لا يحاسب. لو طلبت من محدثك وقتاً محدداً، وأصررت على أن يلتزم به، سيراك لجوجاً غير مؤدب. الوضوح هو قلة أدب إذاً، حتى في الدستور.
الحكومة المغربية انعكاس لهذه الذهنية، بل النظام السياسي بكامله الذي يجعل من «التبوحيط» وليس من الوضوح منهجاً.
في الكثير من الأسر، لا توثّق الأملاك بين الزوجين، أثناء تحرير عقد الزواج. يترك ذلك للنية، مخافة أن تطير البركة. كيف يحق لمواطن طبّق هذا في بيته أن يطالب بدستور دقيق جداً؟ إنّه مواطن يطلب من جاره ما لا يفعله في بيته.
الذين حرروا الدستور فكروا بتلك الطريقة، وهم منا وإلينا. زادوا صلاحيات الوزير الأول على نحو كبير. هذه هي الديموقراطية. ممتاز.
وهل يمكن للملك أن... ؟ تجنبوا هذا السؤال حفاظاً على النية والبركة.
يعكس الحرص على الغموض أزمة النموذج لدى المغاربة. هل يريدون دولة دينية أم مدنية أم قبلية أم مركزية أم جهوية؟ الجواب: يريدون كلّ ذلك دفعة واحدة، وحصلوا عليه في الدستور الجديد. لذا، فإنّ الديموقراطية ستتحقق، لا بفضل النص بل بفضل
الممارسة.
صوّتت بنعم مع أنّي لم أطالب أصلاً بتعديل الدستور، بل طالبت بمحاربة الفساد (تسبب جدل الدستور في تغطية المشكل الحقيقي: الفساد). طالبت بمعرفة مستقبل لصوصنا، طالبت بفصل التجارة عن الإمارة، كما أوصى ابن خلدون. طالبت الوجوه الهرمة بالتراجع لنشمّ هواءً شاباً، طالبت بخفض نسبة الديون على الاستهلاك إلى 8% بدل 15% حالياً، وطالبت المحافظة العقارية بالإعلان عن حركة الأراضي، خلال السنوات العشر الأخيرة، لنعرف من نهب، متى وكيف وكم. فالعقار هو بترول المغرب.
هنا المشكل، فالذين جمعوا ثروات مهولة سيحوّلونها إلى قوة اجتماعية تضمن لهم التحكم فينا. سيشترون الناس وصناديق الاقتراع إن لم يحاسبوا.
صَوَّتُّ بنعم، فحاسِبوا الفاسدين.

* صحافي مغربي