حين ظهرت الحركة الشبابية في 20 شباط/ فبراير 2011 سخروا منها. حين صمدت، هاجموها، وحين قويت ذهلوا، خافوا واختفوا. من هم؟ رجال النخبة الذين يحتلون واجهة السياسة في المغرب منذ عشرات السنين، أي قيادات حزبية هرمة، ونافذون في مختلف المواقع في هرم السلطة. بدت الحركة لهؤلاء كسحابة غامضة، لكن كبيرة. بدأ البعض يسدد عليها، والبعض الآخر يستظل بها، بينما فريق ينتظر المطر لتخصب الأرض ويجني دون أن يبذل جهداً.لم يُسمع طوال شهر آذار/ مارس إلا صوت الشباب يطالب ويطالب. ثم تمكن أحد من النخبة التقليدية اليسارية من تنفيس الوضع. لقد وجد الحل، قال «إنّ مطالب الشباب هي مطالبنا». وارتفعت نغمة «نحن قلنا لكم»، «نحن طالبنا قبلكم»، فخرجت قيادات تقول إنّها سباقة إلى المطالبة بالتغيير والديموقراطية وتعديل الدستور. هكذا تساوى الشباب والشيوخ.
مرت لحظة تمييع للمشهد بسبب اختلاق التشابهات. ثم وجد الشباب الرد: صحيح، المطالب هي نفسها، طالبتم بها منذ خمسين سنة. لماذا لم تتحقق؟
هنا عاد الفرق ليتضح. هم يريدون الألفاظ فقط، أما الشباب فيريدون الوقائع والأفعال، هنا والآن. انتهى التمطيط السياسي. من الآن فصاعداً، الشعب لا يمهل ولا يهمل.
صار الجو مشحوناً بسبب الرياح التي تهب من مصر وتونس، وبسبب الفرز، صدرت أحكام قضائية شديدة ضد الشباب، واستمرت الاحتجاجات. حينها اتضح للجميع أنّ قوة حركة «20 فبراير» تنبع من كونها فكرة أكثر مما هي تنظيم، يمكن قمع التنظيمات ومنعها، لكن فكرة لا يمكن إغلاقها أو اعتقالها.
خطب الملك في التاسع من نيسان/ أبريل، ووعد بتعديل الدستور، تمّ تأليف لجنة لصوغ دستور جديد، وتقرر موعد الاستفتاء بعد شهرين، وجرت احتفالات فورية.
قال الشباب «هذا الدستور لا يشبه وجوهنا». وكان ذلك متوقعاً، لأنّ الحركة هي فكرة تمثل سقفاً معيناً، لن يبلغها الدستور المعدل. لذا سيبقى هناك فراغ بين المطلب العالي وما تحقق. قال القانونيون إنّه دستور لا يشبه دستور المملكة الإسبانية ولا البريطانية. ماذا يشبه إذاً؟ لا نظير له لأنّ الملكية المغربية لا شرقية ولا غربية، وهي فريدة في خصوصيتها. ما هي إذن؟ يأتي الجواب في حملة شرح وتعبئة للشعب ليقول نعم.
حالياً، يحتل شيوخ النخبة استوديوهات التلفزة ليشرحوا لنا. أولئك الذين دافعوا عن الدستور السابق والاستفتاء الأسبق، لذلك أقطع صوت التلفزة لأتابع صور وجوههم صامتة، وجوه ممتلئة وسمتها النعمة. من فرط دسمها لم تتضرر من الشيخوخة ومن مرور الزمن.
وجودهم في التلفزة دليل قاطع على أنّهم نجوا مما وقع في تونس ومصر. لقد نجوا من الطوفان. هنيئاً لهم. لا يزالون في مواقعهم القيادية منذ عشرات السنين. مستقبلهم زاهر، وكذلك مستقبل أبنائهم. لا فساد في البلد، ولا هم يحزنون. نجوا ويأخذون الكلمة ليشرحوا لنا، فالشعب لا يريد إسقاط النظام. هم، هنا يطابقون أنفسهم مع النظام.
تدل ألوان ربطات العنق على الفرح باحتلال استوديوهات التلفزة، لكنّ الشبان سيقاطعون الاستفتاء، والمعطلون يحرقون بطاقاتهم الانتخابية. الأمر معقد ولا يجري كلّه في استوديوهات التلفزة، ولا في صناديق الاقتراع.
جواب أحد الشيوخ ـــــ وهو برلماني ووزير سابق ـــــ على التعقيد هو «الشعب سيصوت بنعم، والجبناء يقاطعون الاستفتاء». سيصوّت المتحدث بنعم، هو والشعب معاً. هنا يطابق نفسه مع الشعب. الشعب سيصوّت، فمن أين جاء الجبناء؟ من المريخ؟ ربما. لكنّهم لم يأتوا من الشعب. ما الدليل؟
كلّ الشعب يوجد في الدستور. إلا الجبناء لا يجدون أنفسهم في هذا الدستور الشامل الذي أعلن المملكة دولة إسلامية بأمير للمؤمنين، وتتبنى حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالمياً. مملكة لغتها الرسمية العربية والأمازيغية، وتسير إدارتها باللغة الفرنسية، ويوجد في هويتها العنصر الأندلسي والصحراوي، وهي ملكية مواطنة لا دستورية ولا برلمانية، بل الاثنان معاً.
من يستطيع رفض دستور شامل جامع كهذا؟ الجبناء، لأنّهم يطالبون ببنود دقيقة ومحددة لفصل السلطات، بدل الحديث عن الهوية.
والشجعان؟ سيصوّتون بنعم.
لكنّ المسألة لم تنته، لأنّ الشبان يجرّون النخب التقليدية خارج قواعدها، خارج التلفزة وخارج مكاتب التصويت: يجرّونها إلى الشارع، وهذا ما تكرهه لأنّه لا سبيل للتحكم فيه. هنا ستجري المعارك قريباً.
وهكذا أعلنت الزاوية البودشيشية تنظيم مسيرة من 80000 مريد لتأييد الدستور الجديد. وأصدر الشرفاء وعلماء الأمة المغربية بلاغات «نعم». لم يتمكن الشباب من جمع هذا العدد الكثيف في الشوارع الرئيسية، في أية مدينة مغربية. لذا تحاول حركة «20 فبراير» نقل المعركة الاحتجاجية إلى الأحياء الشعبية لتحقيق جموع أكبر. لكن هنا توجد أجيال خطرة لم يحتضنها التعليم، لفظتها سوق الشغل فانغلق الأفق أمامها، وهي قنبلة موقوتة. جيل خطر ينفس عن نفسه بالكحول والمخدرات والشجارات الدموية، لإثبات الذات. وهذا احتمال وارد إذا صُدّرت الأزمة إلى الشارع، وتزايد التنافس على عدد المحتجين، لفرض المواقف السياسية على الخصوم.
توجد مشكلة أخرى: وسائل الإعلام، الدولية والمحلية المستقلة، قليلاً ما تهتم بـ80000 شخص، وتركز على أحد نشطاء الشباب الذي يرقد في مستشفى بعدما ضربه أحد المنتخبين في الشارع. ضربه لأنّ حصة النقاش انتهت.
هذا هو المغرب قبيل الاستفتاء. النخب التقليدية راضية، البسطاء في الأحياء الشعبية يكرهون هذه النخب، ويرجمون ممثليها في كلّ حي يحلّون به ليخطبوا. لذا تتحصن تلك النخب باستوديو التلفزيون المكيّف والمحروس. هنا يخطبون ببلاغة وراحة. لكن من يصدقهم؟
رغم ذلك تمكنت السلطة في المغرب من تدبير المرحلة. الاستفتاء على الطريق، والمهرجانات على قدم وساق، وقد لعبت الانقسامات بين النخب التقليدية والحديثة لصالحها. والدستور، بذكره للجميع أرضى الجميع. كل واحد يجد اسمه فيه، وهذا من فوائد خصوبة الهجين.
فالنظام السياسي في المغرب ليس صافياً صرفاً، بل نظام هجين تتعايش داخله توجهات قروسطية وحداثية، إسلامية صوفية وعلمانية، وتنظيمات بيروقراطية وقبلية. وهو تعايش مرن، فيه تجاذب لا يصل إلى الصدام، وصمام الأمان فيه هو الملك. وليس صدفة أنّ زعيم حزب العدالة والتنمية المغربي يرى أنّ المسّ بصلاحيات الملك سيجعل من المغرب لبنان ثانياً.
الحفاظ على نفوذ الملك أهم من الديموقراطية التي قد تسمح بصدام تلك التوجهات. هذا ما كرسه الدستور الجديد. كرس المحاصصة بين النخب.
يعيش المغرب منذ الاستقلال ديموقراطية الأعيان والعشائر، وهي مبنية على المحاصصة، في البرلمان والوزارات والمناصب والأراضي. محاصصة تسببت في فساد، وفي منافسة شرسة للحصول على الامتيازات. منافسة تهدد وحدة وسلامة الوطن. يلجمها الملك، وتضطره ليقوم بجولات توحيدية مستمرة بين المناطق.
الآن، توجد طموحات للتغيير، لكنّ الشيوخ يفكرون في الاستقرار وفي استمرار مصالحهم، والشباب ضجروا من المحاصصة بين النخب.
النتيجة، أرى نذر قصيدة سعدي يوسف تتحقق. أي ربيع هذا؟

* صحافي مغربي