وجد 24 ناشطاً من الفلسطينيين السوريين موتهم عند الشريط الحدودي في ذكرى «النكسة». لكلّ واحد منهم اسم وعلم وقضية. قد يكون لكلّ واحد زوجة أو عشيقة أو ابن أو ابنة. قد يكون لكلّ واحد أغنيته المفضلة، أو قصيدته التي أحب، شهادة أو مهنة أو صدفة عاشها في الطريق إلى الموت. لا نعرفهم جميعاً، ولا نعرفهم أفراداً، لكن بالتأكيد وراء كلّ واحد قصة تبعثرت أوراقها عند الحدود، حين كانوا يُقتلون ببث حي ومباشر على مرأى من أهلهم وأقربائهم. عشرة أيام مرّت على موتهم غير المشتهَى، ونكاد لا نذكر أسماءهم أو رسالتهم. نذكر فقط أنّهم شهداء، لكن هل الشهادة رقم أم موت بلا ثمن؟ من قال إنَّ تسمية الشهيد كافية لذكر هؤلاء؟ وهل الشهادة وحدها كافية، لتروي حكاية لاجئ مات بدم بارد على حدود غير شرعية أصلاً؟
للأسف، لقد طويت صفحتهم بقصصها وذكرياتها وأغنياتها، لكنَّ المثير في حالتهم أنَّه حتى الاستنكار يبدو خجولاً ومقموعاً.
حين قتل الإسرائيليون هذا الكم، كانوا يعرفون أنَّ الاستنكار سيأتي خجولاً. ربما كانت بيانات الناطق العسكري جاهزة. فحين يكون الموت يومياً في بلاد الشام، سيكون رد الاحتلال جاهزاً، وكان جاهزاً. ونحن أيضاً، كنا جاهزين بصمتنا.
لكن قبل أن نعيد الأسطوانة المعهودة، ونتهم العالم بـ«الصمت»، لا بدّ أن ندرك أنّنا لا نثمّن موتانا، ولا نقدر حكاياتنا. فإذا كانت قصة الراحل تنشر بعد رحيله في رثاء أو قصيدة، فإنّنا لا نعرف أصلاً كيف نرثي قتلانا. ماتوا فدفنت قصصهم تحت الهاوية. حين يقتل العشرات في سوريا، في تظاهرة سلمية ضد نظام يمتهن القمع، وقتل أضعاف من قتلوا على الحدود، سيكون استنكار قتل الفلسطينيين السوريين محبطاً ومهيناً. فمن يقتل أبناء شعبه، لا يمتلك حقاً أخلاقياً في لوم الآخرين على القتل. الرأي العام الدولي كان منافقاً دائماً، وامتهن اللاعدالة، لكن في المقابل نحن امتهنّا الصمت والقمع وتصنيف موتانا كالأرقام. رقم القتلى في العراق، في معظم الصحف العربية، يظهر تماماً كالرقم الذي تظهره «نيويورك تايمز». ليسوا وحدهم يتعاطون مع القتلى العرب كأنّهم هامش، نحن أيضاً، بغالبية صحفنا وقياديينا، نتعاطى مع أنفسنا كأرقام. كموت بلا قصة، كأغنية بلا لحن. كأنّ الهوية بطاقة لا حياة وحضارة. وكأنّ القتيل ولد من رحم الهواء، دون أهل وحب وقصة.
لقد صدّر العرب هذه الثقافة إلى الغرب وإلى إسرائيل: موت الغربيين والغرباء قصص وموتنا رقم ليس مؤكداً. وقبل أحداث النكبة والنكسة: كم طفل وغير مسلح يقتل عند الحدود بين غزة وإسرائيل؟ لا أحد يعرف الإجابة، ولن يعرفها. فالجريمة قد يقترفها الإسرائيلي، لكنّ الشركاء كثر. في 2006، قُتل جنديان مصريان عند الحدود الإسرائيلية ـــــ المصرية برصاص إسرائيلي (قيل إنّه خطأ!). وفي اليوم التالي، استقبل مبارك رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت، في شرم الشيخ. لو كان الجنديان إسرائيليين، هل كان أولمرت سيستقبل موفداً مصرياً؟ هذه هي الثقافة التي اتبعتها إسرائيل، وعزّزها العرب. مرّت خمس سنوات. لا أحد يعرف اسم الجنديين وماذا اقترفا؟ كيف إذاً ستتوقّع أن يذكرك العالم؟
حين يموت آلاف الفلسطينيين في غزة، ويحاصَر مئات الآلاف، ويُصفَّى نشطاء وهم في فراشهم أمام أطفالهم، وهناك من يذهب إلى التفاوض في القدس المحتلة وتل أبيب في اليوم التالي، فهذه رسالة واضحة إلى العالم كلّه: نحن معكم والموتى أرقام. نحن نتفاوض، ومن يمُت فستموت قصته. وحين تشن إسرائيل حرباً على شعب أعزل أمام العالم، وتقتل أشخاصاً فلسطينيين عند الحدود (هؤلاء أليسوا لاجئين؟!) تجد فيما بعد من يشترط العودة الى المفاوضات بوقف البناء في الاستيطان، كأنّ الذين قتلوا ليسوا فلسطينيين.
لقد ثار الإسرائيليون بأقلامهم ضد بنيامين نتنياهو، لأنّه لم يذكر الجندي الأسير لدى حماس جلعاد شاليط في الكونغرس الأميركي. ونحن شخصياً لا نذكر متى ذكر القادة الفلسطينيون قضية الأسرى في المحافل الدولية على نحو جدّي. القضية الفلسطينية والعربية ليست أرضاً وحدوداً، إنَّها قضية إنسان له الحق على الأرض والحدود. قضية بشر لهم حق سياسي وأخلاقي. ما هي فائدة وقف الاستيطان حين يكون القتل مستمراً؟ ما فائدة شعار الدخول الى يافا والعودة الرمزية، فيما أكثر من 20 شاباً لقوا حتفهم دون ثمن؟ ما فائدة الانتصار المجازي، حين يموت الناس فعلياً في دمشق وليبيا واليمن وغيرها؟ كيف ستطالب بتحقيق حلم اللاجئ الفلسطيني حيت تقتل أحلام شعبك؟
* من أسرة «الأخبار»
2 تعليق
التعليقات
-
الفلسطينيون والإنتفاضة السورية (2)وليس من المبالغة إطلاقاً القول إنّ الكذب ملح النظام السوريّ. يكفي أن نراجع صفحات قليلة من كتاب ليزا ويدين "السيطرة الغامضة"، الذي صدرت مؤخّراً ترجمته العربيّة، للتيقّن من ذلك. فهو دائماً زعم أنّه أكثر فلسطينيّة من الفلسطينيّين، وأكثر لبنانيّة من اللبنانيّين. وهو، حرصاً منه على الشعبين اخترع لهما "الفصائل" في 1983 التي هدّدت منظّمة التحرير الفلسطينيّة ووحدتها وشرعيّة تمثيلها، كما لعبت أدواراً في النزاعات اللبنانيّة يصعب تبريرها سياسيًّا وأخلاقيًّا. يكفي التذكير بأنّ ولادة "الفصائل" تلك إنّما ترافقت مع شقّ منظّمة التحرير لأنّها "تفرّط" بقضيّتها، وذلك بعد أشهر فحسب على اجتياح 1982 الإسرائيليّ. فـ"الفصائل"، إذاً، خرجت من ذاك البطن الذي خرجت منه حرب طرابلس ومقتل القائد الفلسطينيّ سعد صايل (أبو الوليد) في البقاع، قبل أن تندلع "حرب المخيّمات" جنوب بيروت. أمّا الذين يرون أنّ منظّمة التحرير قدّمت تنازلات كبرى للإسرائيليّين في اتّفاقيّة أوسلو العام 1993، فينسون أنّ تلك التنازلات لم تنفصل عن الإنهاك العظيم الذي تعرّضت له المنظّمة في لبنان آنذاك. لقد قال فلسطينيّو اليرموك أنّ هذه السياسة المؤسّسة على الكذب، والتي تشتغل آلتها على طحن دمهم، آن لها أن تتوقّف. ألا يذكّرنا هذا بسكّان جنوب لبنان؟
-
الفلسطينيون والإنتفاضة السوريةحصّة الفلسطينيّين من الانتفاضة السوريّة هي أن يثوروا على الكذب. هذا ما فعلوه في مخيّم اليرموك قبل أيّام. فقد هاجم مشيّعو القتلى الذين سقطوا برصاص إسرائيليّ، يوم 5 حزيران الماضي، مسؤول "الجبهة الشعبيّة" ماهر الطاهر، مردّدين "الشعب يريد إسقاط الفصائل"، محرقين مقرّ الجبهة ذاتها. لكنّ جبهة أخرى من "الفصائل"، هي "الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة" ما لبثت أن قتلت 14 شخصاً منهم! والجريمة هذه كانت وراء مطالبة رفعها "المكتب المركزيّ لأسرى حركة فتح" بطرد أحمد جبريل، أمين عامّ "القيادة العامّة"، من منظّمة التحرير الفلسطينيّة، فضلاً عن تصاعد أصوات فلسطينيّة، شعبيّة وثقافيّة، تعلن غضبها من الاستخدام المديد للفلسطينيّين خدمةً لمصالح النّظام السوريّ. ففلسطين والعروبة الكذبتان الأكبر للنظام المذكور، والفلسطينيّون واللبنانيّون، فضلاً عن السوريّين، أكبر ضحايا هاتين الكذبتين الدائمتين. وهذا، بالضبط، ما بادر إلى الردّ عليه أهل مخيّم اليرموك مع تداعي ذاك النّظام. فالرفض شامل لإبقاء الشبّان الفلسطينيّين مادّة استعماليّة، يُرسَلون إلى الجبهة حين تحتاج السلطة الدمشقيّة ذلك، ويُمنعون من الوصول إليها حين تحتاج ذلك. يكفي أن يكون هناك فلسطينيّ واحد قد قرأ ما تفوّه به رامي مخلوف قبل أسابيع، ثمّ رأى ابناً له يسقط قتيلاً لأنّ "القيادة العامّة" طلبت منه أن يتوجّه إلى هناك، بعد أن طلبت دمشق من "القيادة العامّة" أن تطلب ذلك! وليس من المبالغة إطلاقاً القول إنّ الكذب ملح النظام السوريّ.