في ستينيات القرن الماضي، طرح المفكّر أرند ليبهارت نظاماً سياسياً يسمح للدول المنقسمة بمعالجة النزاعات التي تشهدها. ويعرف هذا النظام بـ»الديموقراطية التوافقية»، حيث يقوم على إنشاء «حكومات تقوم على اتفاق مكتوب بين النخبة في الحكم، بغية تحويل الديموقراطية في مجتمعات منقسمة وهشة إلى ديموقراطيات مستقرة». ولتحقيق ذلك، يضع ليبهارت عدداً من الشروط الاجتماعية في ما يعرف بـmass political structure وتتلخص كالتالي: ١) ضرورة وضع حدود معيّنة بين الثقافات والإيديولجيات المختلفة للحدّ من التوترات والشكوك بين الأفرقاء كافة. ٢) على ممثلي الطوائف في الحكومة التعاون في الحكم، ولكن في الوقت نفسه عليهم العمل للحفاظ على ولاء جمهور كلّ واحد منهم. ٣) العمل على تحقيق التوازن بين الطوائف المختلفة.
في لبنان، فشلت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال في تحقيق ما عرف «بالديموقراطية التوافقية» وصولاً إلى اندلاع الحرب الأهلية في عام ١٩٧٥ لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية عدة، ولعلّ أهمها هو ما لخصّه العالم السياسي مايكل هدسن باعتباره أن «الديموقراطية التوافقية» فشلت في الدول المنقسمة مثل لبنان نتيجة عجز النظام السياسي من استيعاب المتغيرات والمتطلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي حين يعزو البعض فشل النظام السياسي في لبنان إلى تمركز معظم الخدمات في العاصمة بينما يتم إهمال (عن عمد) الأطراف ما يؤدي إلى فروقات اجتماعية واقتصادية ستؤدي حتماً إلى الانفجار، يرى فريق آخر من العلماء أن المشكلة تكمن في الميثاق الوطني الذي اعتمد في عام ١٩٤٣، والذي كان عبارة عن تسوية تمّت بين الموارنة والسنة في لبنان حول الحكم، وما لبث أن هددته الانقسامات العمودية بين الطرفين بسبب ارتباطهما بمشاريع خارجية. فالمسلمون السنة، عرفوا بتأييدهم للحركات القومية والأجندات الفلسطينية لأسباب تتعدّى الشعور القومي وتصبّ في خانة المصلحة الحزبية والفردية والمذهبية، بينما رفض قسم من الموارنة آنذاك إلحاق لبنان بهذه الأجندات تحت حجة الخوف على الوجود المسيحي من هذا التمدّد العروبي، متجاهلين أن المسيحية المشرقية هي أوّل من أسّس للقومية العربية بكتابها ومفكريها وشعرائها. أيضاً، يرى قسم من العلماء والمفكرين أن عدم التمثيل الفعلي في السلطة لطائفة أو مذهب هو السبب الذي أدى إلى انهيار السلطة واندلاع الحرب الأهلية، بينما وجدت مدرسة فكرية أخرى أن فشل الاحزاب والتيارات المختلفة في السيطرة على قواعدها الشعبية نتيجة عوامل داخلية وخارجية هي السبب الرئيسي الذي أدى إلى الحرب، فيما ربطت مدرسة أخرى وقوع الحرب بالعوامل الخارجية فقط كالصراع العربي ـ الاسرائيلي والوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان.
اليوم، يدور النقاش في لبنان حول فشل النظام السياسي القائم، غير أن البعض، عوضاً عن البحث في الأسباب التي أدت إلى فشله وبالتالي العمل على تصحيح مكامن الخلل عبر البدء بورشة إصلاحية أكاديمية وسياسية تبدأ في المدارس والجامعات ولا تنتهي في مؤسسات الدولة وفي اعتماد نظام انتخابيّ عادل على قاعدة المشاركة والتمثيل النسبيّ، يعيد البعض طرح موضوع تقسيم لبنان أو ما يعرف بالفيدرالية، تحت مسميّات مختلفة كالاتحادية أو اللامركزية الموحدة وصولاً إلى طرح مشروع اللامركزية الإدارية، الذي إن كان يقدم الكثير من الحلول لجهة تفعيل الخدمات في الأقضية والمحافظات، إلا أن طرحه في هذا الوقت تحديداً من شأنه أن يثير علامات استفهام لا سيّما أن تطبيقه بالشكل الصحيح يتطلب وجود قضاء قويّ وقادر على حمايته من الانزلاق نحو الفدرلة وهو ما ليس متوافراً. وثمة اعتقاد خاطئ تاريخيّاً، وهو أن مشروع الفيدرالية يتبنّاه جميع المسيحيين وأنه يؤمّن ويحمي الوجود المسيحي في لبنان، في حين أن اعتماده لن يؤدي إلا إلى تهجير المسيحيين خدمة للمشروع الاسرائيلي القديم، المتجدد، الذي يهدف إلى حماية وجود الكيان الصهيوني. قد يعتبر البعض أن هذا المنطق غير واقعيّ، وأنّه يصبّ في خانة نظرية المؤامرة التي تتخذها القوى الممانعة منطلقاً في مقاربتها لعدد من القضايا، غير أن ما يجري اليوم على الساحة العربية باسم الثورات وباسم التنمية والذي لم يؤدِ إلا إلى زيادة الشرخ بين مختلف مكونات المجتمعات كمقدمة لتقسيم الدول التي تشهد حروباً ونزاعات، يعيد إلى الأذهان السياسات الاسرائيلية التاريخية والجرائم الاسرائيلية من تهجير المسيحيين إلى تقسيم المنطقة، والتي بدأت منذ نشوء كيان هذا العدوّ رسمياً أي منذ عام ١٩٤٨. أما لبنان، فقد شهد رسميّاً أولى محاولات التقسيم والتهجير في سبعينيات القرن الماضي، حيث تبنّى قسم من المسيحيين وتحديداً الكتائب اللبنانية التي كانت في الواجهة آنذاك هذا الطرح، تحت عنوان السيطرة على الطائفة المسيحية من خلال ما كان يعرف بشعار «توحيد البندقية»، فيما استطاع الرئيس الراحل سليمان فرنجية استشراف ما كان يعدّ للبنان وللمسيحيين من قبل الإسرائيليين، فرفض كل مشاريع السلام مع إسرائيل في لبنان ورفض اتفاقية كامب ديفيد. كما أعلن نجله طوني فرنجية أيضاً رفضه بشكل قاطع أي نوع من أنواع «التعامل مع دولة إسرائيل وعمل على التقارب العلني مع دمشق» كرسالة على «ارتباط مسيحيي لبنان بالعالم العربي وتحالفه مع الدول التي لا تزال تقاوم إسرائيل»، بالإضافة إلى القيام بالمصالحة بين الرئيسين فرنجية ورشيد كرامي للتعبير عن رفض التقسيم الطائفي. وقد أدت المقاومة السياسية ضد المشروع الاسرائيلي الذي بدأه آل فرنجية في الشمال إلى ارتكاب حزب الكتائب مجزرة إهدن في ١٣ حزيران ١٩٧٨ والتي أدت إلى استشهاد طوني فرنجية وعائلته وعدد من المواطنين، والتي ارتبطت بحسب الصحافة العالمية بالمشروع الاسرائيلي ذلك أنها تزامنت مع الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من جنوب لبنان. ولم يرد الاسرائيليون من خطوة الانسحاب من الجنوب آنذاك إعادة السيادة اللبنانية، بل كان يراد من مجزرة إهدن القضاء على الفريق المسيحي المقاوم والرافض لسياساتهم من جهة، ومن جهة أخرى إغراق المسيحيين بالاقتتال بغية السيطرة عليهم عبر حلفائهم، تحت عنوان الحماية الدولية وصولاً إلى تقسيمهم فتهجيرهم، غير أن حكمة الرئيس فرنجية والبعد الوطني الذي أعطاه للمجزرة عبر قوله الشهير «فدا لبنان»، أسقط كل هذه الخطط والمشاريع. ولم ينته المشروع التقسيمي في لبنان، بل تجدد مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان في عام ١٩٨٢، ولاحقاً في اتفاق ١٧ أيار في عام ١٩٨٢ الذي كان يهدف إلى إلحاق لبنان في المحور الاسرائيلي خدمة للمشروع نفسه، والذي رفضته وحاربته القوى والأحزاب الوطنية ومنها الشريك المسيحي حيث أعلن الرئيس سليمان فرنجية مقاومته للعدوّ الاسرائيلي.
إن ما يحصل اليوم في العالم العربي يؤكد استمرار السياسة الاسرائيلية نفسها ولكن بأدوات مختلفة، إذ أن التكفيريين اليوم هم أداة من الأدوات الصهيونية لتفتيت وتقسيم العالم العربي. وحتى يومنا هذا، فشلت كل المخططات الإسرائيلية في لبنان بفعل المقاومتين العسكرية والسياسية التي بدأت في إهدن في عام ١٩٧٨، واستكملت في الجنوب اللبناني من خلال المقاومة العسكرية، غير أن إعادة طرح موضوع التقسيم من جديد من بعض القوى السياسية ومن بعض الجهات تحت عناوين سياسية وإنمائية مختلفة يحتّم العودة إلى التاريخ واستخلاص العبر من تجارب الماضي، وهي أن لبنان عصيّ على التقسيم، وأن الحلّ للنظام السياسي يكمن في البحث في أسباب فشله والبدء بإصلاحات سياسية وقضائية وصولاً إلى اعتماد قانون انتخابي يؤمن التمثيل العادل لجميع مكونات المجتمع اللبناني. في السبعينيات قال طوني فرنجية: «لن يمرّ التقسيم إلاّ على أجسادنا»، واليوم، بعد كل ما قدمته وتقدمه المقاومة ووفاء للشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن وحدة لبنان بدءاً من عام ١٩٧٨، التقسيم، لن يمرّ.

الهوامش:

Najem, T.P (2000). Lebanon’s renaissance: The Political Economy of Reconstruction. UK: Garner Publishing Limited
*أستاذة جامعية