ثمّة إيجابيّات كثيرة لشعار إسقاط النظام الطائفي، لعل أبرزها كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها النظام الطائفي وطاقمه السياسي والمشهد العام وأزمة الأحزاب التي «تناضل» لأجله. ولا يقل عن هذا أهمية ما يوفره الشعار من فرصة لقاء اللاطائفيين والعلمانيين والمدنيين والديموقراطيين، في سبيل خروجهم من كبوتهم وتشتتهم واللافاعلية ورفع صوتهم ضد اختزال الطائفيين، على أنواعهم، المشهدَ السياسيَّ واحتكارهم السلطة واختصارهم الدولة ومؤسساتها... إضافة إلى فسادهم والسرقة وسلب الثروة والحقوق.وهناك فوائد نفسية أو ثقافية، كما أظهرت التظاهرة التي تداعى إليها ناشطو الفايسبوك ومواطنات ومواطنون يعيرهم النظام الطائفي وإفرازاته وتزداد غربتهم في بلدهم ويطمحون إلى تجديد الحياة السياسية. لقد أشاع هذا التحرك الأوّلي والمحدود بارقة أمل، وإن لم تتظهّر أو تتنامَ بعد.
رغم هذا، هناك حوار قائم يجب أن يتفاعل ويتوسّع ويأخذ مداه، حول الشعار والتحرّك وأساليبهما. فإسقاط النظام الطائفي هَدف ـــــ مُنطلق، إذا جاز القول، أكثر مما هو شعار. لا يجعله هذا عامّاً وحسب، بل يربكه إلى درجة تقارب إفراغه من المضمون. صحيح أنه وصائغيه ما زالوا في طورٍ تأسيسي تجميعي، ما يستدعي اللجوء إلى العمومية أو الابتدائيّة، لكنه يواجه تحدّيات ثقافية وسياسية وعملية. أولها السؤال عما إذا كان الشعار، حقّاً، جامعاً وجاذباً؟ فنقدُ الطائفية، نظاماً وحياةً سياسية وثقافةً، أمر ضروري، ولديه «مستندات» وأسباب لا تُعد ولا تُحصى، لكن هذا أمر وتغيير النظام السياسي وطاقمه والحياة السياسية أمر آخر. الأمر الأول ثقافي وإنساني، والأمر الثاني سياسي واقتصادي واجتماعي، وطبعاً ثقافي وإنساني... والأهم أنه عملي. وما دمنا في صدد الانتقال من النقد إلى الفعل أو الدعوة إلى ذلك، يُفترض البحث عن مداخل جامعة جاذبة لمقاربة الموضوع. وهنا، يجب أن يتركّز الحوار... والفعل.
وهنا أيضاً، يُستغرب، حتى الساعة، تجنب صائغي الشعار بعدين مهمّين بالنسبة إلى التحرّك وأهدافه وهويته وإلى الفئات التي يتوجّه إليها، ألا وهما الديموقراطي والاجتماعي. لعل طبيعة بعض المجموعات الناشطة المكوّنة من حزبيين سياسيين (علمانيين) ومن مدنيين (مجتمع مدني)، هي السبب. لكن خفض سقف هؤلاء حفاظاً على ائتلافهم وانطلاق التحرك، لا يعني أبداً تغييب هذين البعدين الجاذبين والرئيسيين في صوغ عنوان التحرك وخريطة طريقه وأساليبه. فالبعد الاجتماعي، الفقر والغلاء والأجور والثروة والتفاوت الطبقي والفساد والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والتهميش والحياة النقابيّة... الخ، بُعد ليس له جمهور وحسب، بل هو حيوي بالنسبة إلى المواطن، وهو مدخل لنقد الطائفية نظاماً وسلوكاً سياسيين، وللتحرك في سبيل تغيير النظام والحياة السياسية. وكذلك البعد الديموقراطي، هو ليس حلاً لنزاعات المجموعات وأشباحها وحسب، ولا هو آلية لتجديد الحياة السياسية وحسب، ولا هو حتى نظام سياسي وحسب، هو هذا كله ومعه مخاطبة فئات واسعة متنوعة، بما في ذلك المتناحرة والخائفة والمخيفة.
فتغييب هذين البعدين لا يُفقد التحرك قوّة وانتشاراً وحسب، بل يبقيه في حال المراوحة وفي شبهة النخبوية التي لا يحتاج إليها اللاطائفيون والعلمانيون والديموقراطيون والمدنيّون. وكما لا حاجة لدى هؤلاء إلى الظهور في مظهر المنفعل المقلّد لما يجري في البلدان العربية، كذلك لا مصلحة لهم في التقوقع والانعزال وترك الساحة للطائفيين والفاسدين... وبالتالي تشريع الأبواب للإحباط واليأس.
هنا امتحان الناشطين، المواطنات والمواطنين. امتحان الأحزاب العلمانيّة، هل تبقى أسيرة اللعبة السياسية الطائفية وهدفها الوصول إلى السلطة، جنباً إلى جنب مع الطائفيين والفاسدين، أم ستنخرط في عملية تحقيق ما تقول إنه من مبادئها وعقائدها؛ وامتحان «المدنيين» في الخروج من تكنوقراطيتهم واختصاصيتهم الضيّقة؛ وامتحان المواطنات والمواطنين المستقلّين في تجاوز إعلان التبرؤ من الطائفية ونظامها المأزوم نحو تحرّك أوسع من الفئوية والحزبيّة وأنضج من التجارب السابقة وأرحب وأعمق من شعار البدايات. فتغيير النظام الطائفي ليس عقيدة، ولا سيما أن الطائفية بؤس وعار، ونظامها آلة استبداد وإقصاء وفساد... والضحايا والمقموعون والمهمّشون واليائسون والمهاجرون والصامتون كثر، أكثر من الطاقم السياسي، وطموحات اللبنانيين ومصالحهم يناقضها النظام ويستنزفها... وتحاصرها الطائفية.