معركة سيدي بوزيد


العربي الصديقي*
عندما ترجّح كفة الموت على الحياة، لشاب في مقتبل العمر ذي مؤهل جامعي عالٍ، لا يعني ذلك إلا حقيقة واحدة هي شعور هذا الشاب بالظلم. ولكن عندما تتحرك جماهير تونس في ردّة فعل غاضبة تأييداً لهذا الشاب ومناصرة له، فهو يعبر عن حالة من الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي يعيشها الشعب التونسي.

منذ بداية الأحداث الأخيرة في مدينة سيدي بوزيد، تشير كل التقارير الواردة إلى أنّ هذه الأحداث عفوية.

وهي ناتجة من تعاظم حالة الشعور بالظلم والقهر المتمثل بالبطالة وتواضع فرص التنمية بمناطق الجنوب لحساب مناطق الشمال، إلى جانب جمود الحياة السياسية وعدم وجود تنمية سياسية فاعلة قادرة على تفعيل الطاقات الكامنة في الشباب التونسي من خلال المشاركة السياسية الفاعلة، ودوران العديد من فئات الشعب التونسي في سياق البحث عن رغيف الخبز.
تونس اليوم بحاجة إلى تضافر جهود أبنائها كافة. تونس اليوم هي الشعب الذي ينادي جميع أبنائه وأطيافه وكتله السياسية للتوحد من أجل تونس الخضراء.
قد يأتي اليوم من السياسيين والكتاب والمحللين من يطرح عشرات بل مئات الأسئلة: من، وكيف، ولماذا، ومتى، إلخ...؟ ولكن باعتقادي أنّ من خرج منتفضاً إلى الشارع اليوم متحدياً السطوة الأمنية لقوات الشرطة ليس في ذهنه إلا سؤال واحد: ما هو الحل؟ لسان حالهم يقول نريد حلولاً لا مساجلات وتسجيل نقاط، كل في مرمى الطرف الآخر.
هذا ليس الوقت المناسب لتسجيل نقاط سياسية. ليس من الحكمة الحديث الآن عما نشره موقع ويكيليكس من وثائق أميركية أو ما لم ينشره عن ثراء وفساد بعض البطانة المحيطة بالعائلة الحاكمة في تونس. هذا هو الوقت للتفكير في وضع تونس البائس و«انتفاضة الخبز» والمحرومين في بوزيد وغيرها من المدن.

انتفاضة خبز: ما أشبه اليوم بالبارحة

عند مقابلة فكرة نشأة المجتمع عند ابن تونس، المفكر والعالم ابن خلدون، في موسوعته، والمفكر الفرنسي جان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي، نجدهما يصلان إلى حقيقة واحدة وهي الإطعام من جوع والأمن من خوف.
كذلك فإنّ المتفحص والمطّلع على ثورات الشعوب وزوال الدول والأمم في كل مناطق العالم بدون استثناء، يجد أنّ هناك عوامل رئيسية، فإن لم يكن الخبز هو العامل الرئيس كان أحدها على الأقل. من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية، إلى الثورة الماوية، مروراً بثورة تموز/ يوليو في مصر وغيرها من الثورات، يبرز الخبز بصورة واضحة لا لبس فيها.
ليست الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تونس استثناء. لقد عرف عهد ما بعد الاستقلال في 1956 بـ«عهد الخبز»، إذ شهدت تلك الفترة دعماً حكومياً، في الغالب، مقابل الإذعان السياسي. وبموارد متواضعة، موّلت تونس تاريخياً الإعانات للسلع الاستراتيجية ـــ الخبز والسكر والشاي والقهوة والوقود ـــ والتعليم والصحة والسكن في بعض الحالات، وحتى الأنشطة الترفيهية، مثل الرياضة.
وكان لصندوق التضامن الوطني والصندوق الوطني للتشغيل بعد 1987، اللذين لا يزالان تحت السيطرة المركزية، بعض النجاحات الملموسة في الحياة العامة والتي مثلت موضع إشادة من العديد من الدول النامية. لكنْ تحول أخيراً عبء العناية من الدولة إلى المجتمع.
لقد حفر التونسيون في جيوبهم، للتطوع بالقليل من دخلهم المالي ـــ البسيط أصلاً ـــ في قضية تخفيف حدّة الفقر، وإدخال تحسينات من «مناطق الظل»، أي ما يسمى المناطق المهمشة. ولكن هذا النظام، في ظل الوضع الاقتصادي المحلي والدولي الراهن، فشل في الحدّ من ظاهرة البطالة وترك العديد من العاطلين من العمل في حالة ميؤوس منها.


من بوعزيزي إلى بن علي

إنّها لمأساة وطنية عندما يقوم شاب متعلّم له مستقبل واعد بالإقدام على حرق نفسه احتجاجاً على منعه من بيع الخضروات والفواكه ليكابد بها الفقر والجوع وبؤس الحياة. عندما يندفع الآلاف إلى الشارع، يساورهم ويتملكهم الخوف من المصير نفسه. هذا في ظل سلطة مركزية تعيش في أبراج عاجية وقصور زاهية لا تلامس حياة البؤس والفقر والجوع وانحصار أفق في المستقبل، بدولة كانت نسبياً وإلى حد قريب نموذج التنمية في أفريقيا والوطن العربي.
إنّها رسالة لك أيها الرئيس للنزول إلى الشارع وتلمس احتياجات التونسيين، لا مخاطبتهم عبر شاشات التلفاز بخطاب متواضع. بل يجب الاحتكاك المباشر بالشعب للوقوف على مشكلاته والعمل على اقتراح حلول ووضع آليات قابلة للتنفيذ لمواجهة هذه المشكلات والتحديات التي تواجه العديد من طبقات المجتمع التونسي وفئاته.
إنّها صرخة استنجاد بك أيها الرئيس. مناطق الجنوب تعيش حياة البؤس والفقر والبطالة. اذهب واسمع بنفسك من شعبك ما لا تقوله التقارير الأمنية.
انظر حولك أيها الرئيس. رسالة اليوم هي رسالة المستجير من الجوع والفقر والبؤس، وأعتقد بأنّك قادر على حلّ هذه المشكلة، إلا إذا ما تحوّلت هذه النقمة والغضب والعنف من إيذاء الذات إلى إيذاء الآخر كما يحدث في الكثير من الدول. والعاقل من يعتبر من مصيبة غيره وبلائه.
أيها الرئيس، ثورة الخبز عام 1984 التي قُمعت بالقوة العسكرية، تعود اليوم. وإن لم تحلّ اليوم ستظهر مرة أخرى، فهي بحاجة إلى حل دائم أكثر من أي يوم مضى. لعلها اليوم تستخدم أدوات سلمية، لكن من يستطيع أن يتنبأ بماذا يمكن أن تستخدم من أدوات في الأيام القادمة.
أيها الرئيس، إنّ من يمنح الشرعية هو الشعب، وهذه الشرعية مشروطة بحفظ كرامة شباب تونس. وإذا ما كانت هناك جولة رئاسية جديدة عام 2014، فإنّ شرعية هذه الانتخابات تبقى محل شك مؤكد، إن لم يتغير هذا الواقع المرير لفلذات أكباد تونس، عماد الدولة وحارسها الأمين.
كي يتغير هذا الواقع، وهو المأمول والمتوقع خلال الأيام المقبلة، لا بد من تغيير قواعد اللعبة السياسية. وبناءً على هذا، لا بد من ترجمة فورية تجسد مرحلة جديدة من التوزيع العادل لموارد الدولة، وتوسيع دائرة المشاركة السياسية لكل مكونات المشهد السياسي التونسي. من بديهيات الحياة السياسية، أنّه لا دولة بدون مجتمع ولا مجتمع بدون دولة، فهذه العلاقة التبادلية هي سبيل الصيرورة والديمومة والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة.
إنّ من أبجديات الترجمة الفعلية للنهوض بواقع تونس هو قيمة التواضع السياسي، والمراجعة الذاتية، والمحاسبة المتواصلة للذات، والشفافية، والتزام بالمسؤولية الممنوحة من كتاب التكليف، ومكافحة شاملة للفساد داخل النظام وخارجه، والابتعاد عن العصبية الحزبية.


شتاء طويل بأمطار من سخط

مثل العديد من الدول النامية، حاولت تونس القفز إلى قطار واشنطن والغرب، بالقيام بالعديد من الإجراءات المالية والاقتصادية والاجتماعية. أجراءات أدت بدورها إلى انخفاض الدعم الحكومي للسلع الاستراتيجية بدون توفير بدائل مناسبة، الخصخصة وتملك الأجانب العديد من الشركات، والتفريط بالبيع في مساحات شاسعة من الأرض، وتأجير المنتجعات السياحية، وخلق أنماط جديدة في الاستهلاك وبناء الثروات، ومزيد من الاحتكارات التجارية وانتشار الفساد.
هذا الواقع يقود حتماً إلى تجمع غيوم وسحب من السخط والازدراء فوق سماء تونس تنذر بطوفان من علل وأعراض جمهوريات الموز.
يشهد واقع الاقتصاد التونسي تراجعاً بسبب حالة التهميش والإهمال للقطاع الزراعي وضعف روح المبادرة لدى النخب التجارية والصناعية. إلى جانب ذلك، تعمد الدولة الى رفض وجود أي إشارة للاقتصاد غير الرسمي (الاقتصاد الخفي)، وهذا ما فاقم أزمة تونس. إذاً، الدولة فشلت في إيجاد وتوفير فرص عمل، فليس من الحكمة حظر وجود اقتصاد غير رسمي يوفر آلاف فرص العمل للشباب التونسي.
حالة التهميش والإحباط التي تسود بين أوساط الشباب يمكن أن تكون الشرارة التي تشعل فتيل التوتر الاجتماعي والاضطرابات السياسية. في تونس اليوم، يترجم التهميش والإحباط إلى انتحار غير عقلاني وعمل مأسوي. ولكن غداً يمكن أن يكون هناك نوع مختلف من حالات الانتحار.


وطني أكبر: رسالة إلى النظام الحاكم والمعارضة

شاب يبلغ من العمر 26 عاماً يمتلك شهادة جامعية لا يجد فرصة عمل. يحاول بيع خضروات وفواكه لكي يسد جوعه. يمنع من قبل الحكومة فيقبل على حرق نفسه. إنها مأساة وطنية، الانتحار لأجل لقمة الخبز. لم تنتهِ القصة بعد، شاب آخر يتسلق عمود الكهرباء ليموت صعقاً بالكهرباء، أيّ مستقبل هذا بدون شباب شغوف طامح؟
لقد مثّلت هذه الحادثة صرخة استغاثة تستوجب الوقوف عندها طويلاً، فإنّ مما لا شك فيه أنّ السلطة الحاكمة في تونس ليست سعيدة لما وصلت إليه الأمور. ولم يكن بحسبانها يوماً أن تكون البلاد على شفا انتفاضة خبز قد تزعزع أركان الجمهورية الثانية ومكاسبها. التاريخ خير شاهد، لكنّها يجب أن تدرك، اليوم أكثر من أي يوم مضى، الحاجة إلى الانفتاح على الجميع وتفعيل قوى المجتمع التونسي كلها، من قوى سياسية معارضة ومنظمات مجتمع مدني وغيرها من المؤسسات لإيقاف كرة الثلج المتدحرجة.
من المؤكد أنّ هذه الأحداث تجري على نحو عفوي وليس بتخطيط وتنظيم من المعارضة. ولا أعتقد أنّ المعارضة ستكون سعيدة إذا ما انزلقت البلاد إلى حرب أهلية كما حدث في الجوار. ولا أعتقد أنّ المعارضة مؤهلة في الوقت الحالي على الأقل لتسلم دفة القيادة. لذا، يجب عليها أن تقدم حلولاً عملية بعيداً عن التنظير السياسي، وتعمل على تكاتف الجهود للتأسيس لمرحلة جديدة من التنمية المستدامة بأقسامها التكاملية من سياسية واقتصادية واجتماعية وبشرية وغيرها من أجل نهضة البلاد.
إنّ من سنن الحياة أن يوجد الاختلاف، ومما لا شك فيه أنّ هناك تياراً واسعاً من قيادات الحزب الحاكم تريد التغيير وإحداث نقلة نوعية بمجالات التنمية المستدامة. ولكن يعوق ذلك وجود حرس قديم من المنتفعين. لكن لا بد لهذا التيار الوطني الشريف أن ينتصر لنفسه ولشعبه ووطنه وأن يخرج عن صمته ويرفع صوته عالياً منادياً بالتغيير والانفتاح على الآخر واستيعاب الجميع بحمية وطنية صادقة تُعبر عن أصالة وعراقة تونس القيروان، تونس الزيتونة، تونس ابن خلدون، تونس فرحات حشاد.


الحكومة والمعارضة: برنامج عمل

بعد أكثر من 50 عاماً على الاستقلال، يبدو المشهد العام محزناً، فالشباب التونسي بين من ينتحر أو من يخرج إلى الشوارع لكي يعبر عن غضبة مظلوم. كما أنّ المعارضة ضعيفة، وفاترة وغير قادرة على إحداث حراك سياسي مثمر. أما السلطة السياسية فهي أحادية وعاجزة عن استيعاب متغيرات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. هنا لا بد من برنامج عمل مشترك متكامل عملي قابل للتطبيق للخروج من المأزق الحالي.
ومن أجل ذلك يمكن القيام بالخطوات الآتية:
1. يجب على الحكومة أن تنفتح على كل التيارات والأحزاب والتشكيلات السياسية داخل المجتمع التونسي.
2. عقد مؤتمر تجتمع فيه كل مكونات المجتمع التونسي من أحزاب سياسية ونقابات ومؤسسات مجتمع مدني لمناقشة الأوضاع الأخيرة ووضع برنامج عمل مشترك للنهوض بالواقع التونسي.
3. انتخاب قيادة جديدة للحزب الحاكم بعيدة عن أصحاب اللغة الخشبية من الحرس القديم.
4. تعديل الدستور التونسي والتحوّل من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني باستحداث منصب رئيس الوزراء بصلاحيات حقيقية قادرة على معالجة مشكلات تونس.
5. إعادة إحياء مؤسسات المجتمع المدني التونسي.
6. إحياء المجلس الوطني للتنمية المستدامة على أن يعمل باستقلالية عن الحكومة ولكن بعضوية وزراء الاقتصاد والتجارة والصناعة والتعليم.
7. تشكيل المجلس الأعلى للإعلام كمجلس مستقل يتبع السلطة التشريعية الجديدة المنتخبة.
8. توقيع ميثاق شرف باحترام حق التظاهر السلمي وعدم استخدام العنف.
9. عقد مؤتمر الاستثمار الوطني لرجال الأعمال التونسيين في الداخل والخارج.
10. إنشاء صندوق التضامن الوطني لهذه المناطق، لدعم عمليات التنمية الاقتصادية والبشرية والاجتماعية لمناطق الجنوب المهمشة.
11. إنشاء صندوق لتمويل البحث العلمي بكل جوانبه ومجالاته كأحد أبرز السبل العملية لإحداث التطور اللازم لزيادة القدرة الاستيعابية لسوق العمل المحلي، وصولاً إلى حالة من التنمية المستدامة.
12. إعادة التفكير في التخطيط للتعليم العالي بحيث يتلاءم مع القدرة الاستيعابية لسوق العمل المحلي والعربي.
13. إعادة صياغة السياسة الخارجية التونسية للتحول نحو الخليج العربي بالتوازي مع مشروع الاتحاد من أجل المتوسط.

عود على بدء: معركة سيدي بوزيد

عام 1943 كانت سيدي بوزيد مسرح معركة أخرى. معركة من أجل الحرية من قبل قوات الحلفاء ضد النازيين. اليوم هي مسرح معركة إضافية، معركة من أجل التحرر من الجوع والفقر والبؤس.
عند الوقوف على قضية الشاب بوعزيزي، تتبادر إلى الذهن كلمات من النشيد الوطني التونسي: «نموت، نموت، ويحيا الوطن».
لئلا يتم نسيان الشاب بوعزيزي وقضايا الوطن الأخرى، يجب على الدولة والمجتمع والمعارضة أن يحمل كلّ منهم مرآة لينظر إلى نفسه وأين هو من قضية التنمية وسوء التوزيع غير المتكافئ الذي يعكس قيماً دخيلة على المجتمع التونسي الأصيل. لا نريد أن نصل يوماً إلى نشيد وطني جديد: «نعيش، نعيش، ويموت الوطن».
ولعلنا نختم بالسؤال الآتي: إذا كان خمسون عاماً من التوجّه نحو باريس لم تجلب التنمية المستدامة، أفلم يحن الوقت للتوجه نحو مكة؟
* أستاذ العلوم السياسية
بجامعة اكستر في بريطانيا
(ترجمة لنص نُشر على موقع «الجزيرة» الإنكليزية)


فشل نموذج الحماية



علي أنوزلا*
منذ أكثر من عشرة أيام، والعديد من المدن التونسية تشهد تظاهرات أخرجت آلاف التونسيين إلى شوارع المدن الكبرى، من تونس إلى قفصة، مروراً بالقصرين، وفِريَانَة، ومِدنين، وقابس، وانطلاقاً من سيدي بوزيد التي أطلقت شرارة تلك التظاهرات.
وقد شاهد العالم على موقع «اليوتيوب» المتظاهرين التونسيين وهم يكسرون حاجز الخوف الذي ظل يحكمهم لما يزيد على 23 سنة عقب الانقلاب الأبيض الذي قاد زين العابدين بن علي إلى السلطة. وحتى كتابة هذه الكلمات، لا تزال التظاهرات تتفاعل في جميع أرجاء تونس رغم خطاب الرئيس الذي هدد بإنزال المزيد من القمع على جماهير الشعب بعدما قدّم احتجاجاتهم على أنّها أعمال «عنف وشغب» من صنع «أقليّة من المتطرّفين والمحرّضين المأجورين».
لقد كانت تونس في عهد حاكمها زين العابدين بن علي تقدم كنموذج للاستقرار في المنطقة، وكمثال يحتذى به في مواجهة الحركات الإسلامية، وكتلميذ نجيب في الاستجابة لشروط صناديق القروض والتمويلات الغربية. كما اعتبرت كنجاح لسياسة القبضة البوليسية في التحكم بمنافذ الحياة الإعلامية والسياسية والنقابية. وفي الواقع، قام النموذج التونسي على معادلة بسيطة عندما وضع المقاربة الأمنية قبل المقاربة الديموقراطية. هذا على اعتبار أنّ الديموقراطية يمكن أن تنتظر إلى حين تحقق التنمية الاقتصادية. وأثناء هذه المرحلة الانتقالية، أعطيت الأولوية للمقاربة الأمنية. وخلال عقود، تمت مكافأة بن علي على اختياره هذا من قبل دول غربية ديموقراطية، وأصبحت الكثير من الدول في الشمال والجنوب تنظر إلى نظامه كنموذج قادر على أن يجمع بين التنمية والاستقرار. لكن يبدو اليوم أنّ هذا النموذج كان مجرد وهم. فما الذي حصل خلال العقدين الماضيين؟
أولاً، طالت المرحلة الانتقالية لدرجة تحولت معها إلى عبء حتى على من كانوا يشجعونها من وراء الكواليس من دول غربية، مثل فرنسا التي يقود اليوم إعلامها حملة مناصرة المتظاهرين في شوارع المدن والقرى التونسية.
ثانياً، حوّل النظام البوليسي تونس إلى أكبر سجن للإسلاميين في المنطقة، وقضى على حرية الرأي والتعبير، ودجّن الصحافة، وقضى على النقابات. كما أفقد الأحزاب السياسية التي قبلت التعامل معه كل صدقيّة داخل الشارع التونسي.
ثالثاً، ساهم في بروز طبقة بورجوازية انتهازية مكونة من أفراد أسرة الرئيس وأقرباء زوجته وأصهاره الذين أصبحوا يتحكّمون بمقدرات الشعب التونسي في الاقتصاد والخدمات والإعلام والسياحة والصناعة والفلاحة وعالم المال والأعمال، موظفين أجهزة الدولة لخدمة مصالحهم وحمايتها.
رابعاً وأخيراً، وخلف سياسة الأرقام التي كانت تقدّم تونس كنموذج تنموي ناجح، كانت البطالة تتفاقم في صفوف المتخرّجين، والتهميش يتعاظم في المناطق المنسية، والأوضاع المعيشيّة لشرائح واسعة من الشعب التونسي تتدهور. حتى بلغت الأمور ما وصلت إليه اليوم ودفعت الناس للنزول إلى الشوارع بدون خوف أو وجل.
ما نشهده اليوم هو انهيار لهذا النموذج الذي ظلّ يغذّي خيال العديد من الأنظمة الاستبدادية في المنطقة. لقد أظهرت التظاهرات زيف خطاب الأرقام التي كانت تقدم تونس كواحة اقتصادية ينعم أهلها برغيد العيش. وقدمت لنا حشود المتظاهرين في شوارع المدن والقرى التونسية قدرة الشعب على الانتفاض وتكسير كل قيود الخوف عندما يمس في كرامته وقوت يومه. وفي عصر تقنيات الإعلام الحديث، تبيّن لنا مدى تأخر العقليات المتحجرة التي لا تزال تفكر في حجب الحقيقة عن شعوبها وفي تكميم أفواه مواطنيها. لقد نجحت تقنيات الإعلام الإلكتروني في كسر قيود الرقابة التقليدية التي كانت تمكّن الأنظمة البوليسية من التكتم على قمع المتظاهريين في الشوارع العمومية.
لقد كان الحاكم العام الفرنسي في عهد الاستعمار الفرنسي المارشال اليوطي، أحد أهم مفكري ومهندسي هذا الاستعمار، يرى في تونس نموذجاً مصغراً لنجاح سياسة الحماية الفرنسية. وحاول تطبيق هذا النموذج في الجزائر وفشل، ونقل تجربته إلى المغرب وكادت أن تنجح لولا أنّ الحتمية تقول بأنّ التاريخ لا يعيد نفسه، وعندما يفعل ذلك يكون بصورة مشوّهة.
اللهمّ إنّي قد بلغت، اللهمّ فاشهد!
* صحافي مغربي
(عن www.lakome.com ، موقع اخباري مغربي)