تصاعدت الأزمة المستديمة بين كردستان وحكومة بغداد على نحو غير مسبوق في الأسابيع الأخيرة، إثر تراكمات وتطورات في العديد من الملفات الحساسة بين الطرفين. ملفات كانت مطروحة على طاولة الخلاف لفترة طويلة. وقد أدى إلى انفجار التوتر تصريح شديد اللهجة أدلى به ياسين مجيد أحد قادة ائتلاف دولة القانون، والشخصية القريبة من رئيس الحكومة نوري المالكي، إثر رفض التحالف الكردستاني التصويت على قانون البنى التحتية، والاعتراض الشديد على شراء أسلحة روسية.
قال ياسين إنّ البرزاني يستهدف منع وجود اقتصاد قوي أو مؤسسة عسكرية قوية في العراق. وقال إنّه «خطر حقيقي على اقتصاد العراق وأمنه القومي»، وإنّه «يسعى إلى أن تكون كردستان أقوى من بغداد». (1)
وقد أثار هذا التصريح ردود أفعال شديدة من الجانب الكردستاني، الذي دعا دولة القانون إلى الوقوف ضد تصريحات ياسين مجيد «الاستفزازية» (2). وتسببت مشادات كلامية بين نواب الجانبين في رفع جلسات البرلمان، وشارك الرئيس طالباني في التصعيد، فوصف تصريحات النائب بأنّها «دعوة إلى الحرب». وفضل ائتلاف دولة القانون أن ينحني للعاصفة الكردية، فتبرأ من تصريحات نائبه، وقال إنّها تمثله شخصياً، لكن الحقيقة أنّ تلك التصريحات ليست بعيدة عن الموقف العام لكتلة دولة القانون. فقبل فترة وجيزة وصف نائب آخر من الكتلة تصويت النواب الأكراد لمصلحة مشروع قانون العفو العام بأنّ هؤلاء «يريدون إطلاق كلاب القاعدة كي تستمر المجازر بحق عرب العراق»، وقال إنّ «مسعود بارزاني وجماعته وقفوا منذ البداية مع زيادة الفرقة الطائفية في العراق، فهم يريدون بناء حكومتهم الخاصة على أنقاض الحكومة الاتحادية.» (3)
ويستغرب المراقب أن تحتج كردستان بهذا العنف على استفزاز لفظي، في الوقت الذي لم يدخر فيه ساستها أي جهد لاستفزاز الجانب العربي لفظياً وعملياً. فهذا مثلاً أدهم البارزاني يقترح تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، ويقول إنّ المالكي يؤسس لدكتاتورية تدوم 70 سنة (4). أما عملياً، فلم تخف حكومة كردستان سعيها إلى التسلح بمختلف المعدات على نحو أحرج الحكومة، التي عدّتها مخالفة للدستور، وفتحت قنصليات وسيطرت على 16 وحدة إدارية من نينوى المجاورة للإقليم، ورفعت علم الإقليم على ما سيطرت عليه من أراضٍ، وقامت بالتنقيب عن النفط والمعادن فيها.
وكما طالبت نينوى بغداد والبرلمان بالتدخل لرفع تجاوزات الاقليم عن أراضيها، كذلك تمكنت كردستان من فرض حصة أكبر مرة ونصف مرة من نسبة نفوسها في تقاسم الميزانية ومقاعد مجلس النواب، واحتفظت بقوة عسكرية مسلحة بأسلحة الجيش العراقي التي استولت عليها في فوضى بداية الاحتلال الأميركي. ومنعت البيشمركه الجيش العراقي الحالي من دخول مناطق «متنازع عليها»، كما طردت فرق وزارة النفط من تلك المناطق لتحل محلها فرق الشركات الأجنبية التي تعاقدت كردستان معها بعقود تعدّها بغداد غير شرعية. وتساءل الكثيرون ماذا لو أرادت بقية المحافظات أن تفعل الشيء نفسه.
كذلك فتح الإقليم أبوابه لكل لص أو مطارد من الحكومة العراقية، بل استقبل سمير جعجع المدان بجرائم سياسية، بحفاوة غير معتادة ليزور المقدسات (5) ويحاضر في قضايا المجتمع والطائفية، وينسق المؤامرات ضد سوريا.
على هذه الخلفية جاء شراء الأسلحة الروسية ليفجر العلاقة بين الطرفين. وفي البداية سارعت التصريحات الرسمية إلى طمأنة أميركا. ورغم أن النائب عباس البياتي برر العقود الروسية بالقول: «إننا نشعر ببطء الجانب الاميركي في الإيفاء بتعهدات التجهيز»، فقد أكد أن العراق «لن يفرط بتحالفه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة»، مبيناً أنّ نحو 80% من التسليح العراقي ذو منشأ أميركي وغربي. وردت الخارجية الاميركية بأن التعاون العسكري مع العراق «واسع النطاق وعميق جداً!». ويفترض حسب الاتفاق أن يسلم العراق فى أيلول/ سبتمبر 2014 أول دفعة من المقاتلات الأميركية «إف ــ 16».
وقبل أن تهدئ بغداد التساؤلات عن علاقتها مع أميركا، ثارت عاصفة العلاقة مع كردستان. وعبّر معظم قادة الأكراد عن القلق من صفقة روسيا، وبطرق مثيرة للاستغراب أحياناً، فتساءل أحد النواب عن ضرورة شراء الطائرات والعراق لا يواجه تحدياً أو تهديداً عسكرياً خارجياً. وهذا التصريح يتناقض تماماً مع موقف كردستان السابق، بتمديد بقاء القوات الأميركية باعتبار أنّ الجيش العراقي لم يستكمل بناء قوة تكفي لمواجهة الأخطار المحيطة به!
وانتقد نائب رئيس كتلة التحالف الكردستاني محسن السعدون زيارة المالكي الى روسيا، داعياً الى «أن يكون انفتاح العراق في الوقت الحاضر على الدول الأوروبية، التي تعتمد أنظمة ديموقراطية» لا روسيا، التي وصفها السعدون بأنّها تعتمد النظام المركزي، وتبيع السلاح لحكومات تقمع حركات الشعوب التحررية!
ولم تختلف كتلة «التغيير» المعارضة في كردستان كثيراً، فقالت: «إنّ جمهورية روسيا الاتحادية، وريثة الاتحاد السوفيتي السابق، تعدّ عدوة الشعوب والانظمة السياسية في المنطقة، وإن أي نظام تدعمه روسيا ينتهي نهاية دموية وكارثية». وإنّ «هدفها بيع السلاح والحصول على المال فقط»! ويبدو أنّه لا يزال هناك بقية في العالم تعتقد أنّ أميركا تبيع السلاح من أجل المبادئ!
ومن جهته، عبر رئيس الإقليم مسعود بارزاني عن اعتراضه بما يمكن اعتباره يفتقر إلى اللياقة، حين قال «يجب الا تصل طائرات اف ــ 16 الى يد هذا الشخص». مضيفاً «يجب إما العمل على منع وصولها اليه، لينفذ ما يجول في ذهنه ضد الأكراد، أو يجب أن يكون خارج السلطة حال وصولها» (6).
ولم يخلُ التحالف الكردستاني من بعض الأصوات المخالفة المتفهمة للحكومة، بل انتقد النائب الكردي المستقل محمود عثمان تصريحات بارزاني، ووصفها بـ«المتشنجة»، رغم تأكيده المخاوف الكردية (7).
وتأتي الأحداث على خلفية تأليف «قيادة عمليات دجلة» وربطها بكركوك وديالى المتنازع عليهما. وقد طلبت وزارة البيشمركة رسمياً من بغداد سحب قواتها من كركوك وديالى ونينوى. وزاد الموقف من الأزمة السورية التوتر. فحين كان المالكي يؤكد موقفه الحيادي، لم يتردد وزير خارجيته الكردي من القول بالعكس، وبأنّ العراق «لا يقف موقف الحياد من الشعب السوري». وقامت كردستان بتدريب الآلاف من العناصر الكردية السورية لمصلحة المعارضة، وحوّلت كردستان إلى «ساحة حرب» حسب وصف بعض الجهات الكردية نفسها. وحين اشتكت سوريا من تدفق الأسلحة من العراق، حاولت بغداد السيطرة على الحدود، فحدث اصطدام كاد يؤدي إلى القتال بين الجيش والبيشمركة.
بسبب كل هذا ألقى الأكراد بثقلهم، في محاولة منهم لإفشال عقود العراق للتسلح، وقدموا شكوى إلى السفارة الأميركية (!) التي خيبت أملهم لأنّها «لم تحرك ساكناً». من جانبه حاول إتلاف دولة القانون، الذي يرأسه المالكي، التقليل من أهمية الصفقات الروسية، والتأكيد على انها لا تتضمن سوى أسلحة «دفاعية ولن تستخم ضد أي شخص أو دولة».
ويفسر الأكراد سر حساسيتهم من الاسلحة الروسية بأنّها استخدمت ضدهم في الماضي، لكن ما يشكك في هذا التبرير عدم وجود أثر لتلك «الحساسية» من سلاح بغداد، الذي استخدم ضدهم بالفعل في الماضي قبل أن يستولوا عليه! والتفسير الأكثر منطقية لهذه «الحساسية» هو أن أميركا كانت قد طمأنت الأكراد إلى أنّها قد وضعت شروطاً على الحكومة بأن لا تستخدم أسلحتها ضدهم، رغم تأكيدات سابقة لسياسيين من كتلة المالكي بأنّه لا توجد أية شروط على الأسلحة الأميركية عندما كانوا يشترونها! وهذا الاحتمال يفسر أيضاً لجوء بغداد إلى موسكو لموازنة قوة كردستان العسكرية، على نحو أفضل من قصة مماطلة واشنطن تسليم أسلحة لم يكن قد حان موعد تسليمها بعد.
ما الذي يأمله مسعود البرزاني من زيارته الوشيكة إلى «عدوة شعوب المنطقة»؟ وهل سيطلب منها السلاح الذي انتقد بغداد لحصولها عليه، لأنّه يوجه «إلى قمع حركات الشعوب التحررية»؟ هذا ما ستبينه الأيام القادمة، لكن إن التزم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بما قاله من أنّ «روسيا تصدر الأسلحة والمعدات العسكرية إلى سلطات شرعية»، و«إلى دول مستقلة» فقط، فإنه يجب ألّا يأمل مسعود الكثير.
هوامش
(1) http://www.alalam.ir/news/1345144
(2) http://www.alrafedain.net/index.php?show=news&action=article&id=85550
(3) http://qanon302.net/news/news.php?action=view&id=22976&start=0&page=1
(4) http://www.albadeeliraq.com/article21725.html
(5) http://www.youtube.com/watch?v=dEeCZwTGcIE
(6) http://www.akhbaar.org/home/2012/04/129243.html
(7) http://www.qanon302.net/news/news.php?action=view&id=16159
* كاتب عراقي