يحيي الحزب الشيوعي ،كعادته كل عام، ذكرى تأسيس «الجبهة»، وهي درّة تاج نضال الشيوعيين اللبنانيين والعرب ضد الاحتلال الإسرائيلي. ولأنها الذكرى الثلاثون، وتأتي في قلب مخاض عربي عسير يمهد لمرحلة جديدة تستمر فيها قضية الاحتلال والعدوان حاضرة، تستحق «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» ما هو أكثر من وجدانيات وحنين إلى ماضٍ، لا يعوضان ضمور الحاضر. تستحق التفكير في تلك التجربة ــ الظاهرة بعين اليوم وظروف الماضي ضمن سياق يرى إلى موقع المقاومة كفصيل متقدم من فصائل حركة التحرر الوطني العربية وبما يتيح تقويماً يفتح على دور يبدو، اليوم، ضرورياً.لا شك في أن أهم ما في تجربة «جمول» هو القرار التاريخي والجريء والرؤيوي بإطلاقها، وهو قرار وطني ــ محلي بامتياز، استند إلى مجموعة عوامل يقف في طليعتها وجود آلاف المناضلين الشيوعيين الشجعان والتواقين إلى النضال لتحرير أرضهم والمستعدين لتقديم الغالي والنفيس من التضحيات في سبيل هذه القضية. سيفتح ذلك القرار الباب واسعاً أمام تطورات غير مسبوقة، أهمها طرد الاحتلال الإسرائيلي مهزوماً لأول مرة من بلد عربي، من دون قيد أو شرط. غير أن المفارقة التي شهدها اللبنانيون، هي إقصاء حزب المقاومة «الأول» عن دولة ما بعد اتفاق الطائف، وهو الأمر الذي لا تزال تداعياته واضحة على الحزب الشيوعي الذي يستمر دوره بالتراجع وبريقه بالخفوت. وتطرح هذه المفارقة جملة تساؤلات عن سيرورة المقاومة نفسها، وخصوصاً عن الأسباب التي جعلتها تولد وتنمو شيوعية وتنضج إسلامية. فهل كان ممكناً لمقاومة مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، يقودها حزب شيوعي، أن تستمر وتتطور بشروطه؟ بمعنى آخر، هل كان ممكناً ألا تؤول الأمور إلى ما آلت إليه واقعاً؟ وكيف؟
يرى البعض أنه، بالنظر إلى النتائج اللاحقة، يجوز أن ذلك كان ممكناً لو اتبع الشيوعيون المسلك العام الذي سلكه حزب الله في قيادته للمقاومة الإسلامية لجهة الخيارات الاستراتيجية والسياسية الكبرى بالدرجة الأولى. لكن البعض الآخر يرى أن على الشيوعيين أن يعوا أنه، في ظروف لبنان، لم يكن ممكناً أفضل مما تحقق.
في الواقع، لم يكن ممكناً للشيوعيين، بسبب طبيعة حزبهم من جهة، ونتائج انخراطهم في الحرب الأهلية من جهة أخرى، أن يتحولوا بنحو حصري إلى مقاومين يناضلون تحت الأرض على عكس حزب الله الذي تحول، بعد سنوات قليلة على نشأته، إلى حزب مقاوم فقط قبل أن ينضم إلى السلطة. كذلك بينت التجربة أن وحدة الحزب نفسه وضعت على المحك حين بات مطلوباً سورياً أن يندرج ضمن إطار تنسيقي مع بقية القوى المقاومة. والأهم أن الدور السياسي والوطني للحزب في تلك المرحلة وقع في تناقض موضوعي مع موجبات حماية ظهر مقاومته، رغم مسعاه إلى تحقيق تكامل بين مجمل مهماته النضالية، وذلك بسبب الطبيعة الطائفية التي هيمنت على الحرب الأهلية، وخصوصاً في سنواتها الأخيرة. لذلك، دفع الحزب ثمن إصراره على استقلالية مقاومته إقصاءً عن دولة ما بعد الطائف. وبغض النظر عمّا إذا كان هذا الإصرار على الاستقلالية صائباً أو لا، فإن الحزب لم ينجح في تحويل موقفه ذاك إلى قيمة إيجابية ذات معيارية أخلاقية عالية ــ كان يمكن البناء عليها ــ بل تماهى مع دور الضحية وموقفها وسلوكها، وأمعن في كيل الاتهامات، ما جعله يفقد المغزى الإيجابي لموقفه المستقل. والأدهى أن ذلك انعكس إحباطاً في أوساط الشيوعيين، الذين تلقوا ضربة قاسية بانهيار الاتحاد السوفياتي في الفترة نفسها، ولم يشكل منصة انطلاق للنضال وفق الشروط الجديدة. ومن زاوية نفسية ــ اجتماعية، من المفيد الإشارة إلى أن مجرد ظهور حالة الإحباط هذه هو مؤشر على وجود توقعات عالية، وهو ما قد يرجح أن المزاج العام للشيوعيين ــ على عكس بعض قياداتهم التي لم تتأخر في الانتقال إلى المعسكر الآخر ــ كان ميالاً إلى القبول بالتنسيق بين أطراف المقاومة، ولو برعاية سورية؛ فثقافة الشيوعيين أصلاً، تنظر إلى مقاومتهم باعتبارها جزءاً من معركة مختلف قوى حركة التحرر العربية ضد الإمبريالية والصهيونية والرجعية، وهم ــ بهذا المعنى ــ يتفهمون ضرورات العمل الجبهوي، ويتوقعون منه ما يتناسب مع مدى مساهمتهم فيه. لم يستجب الحزب إذاً ــ بقرار منه ــ لشروط استمرار دوره المقاوم، وهذا يحتم عليه، من الناحية الأدبية والتاريخية، القبول بنتيجة قراره ذاك والتفاخر بها والنظر إلى قراره هذا باعتباره عاملاً سهّل «نضج» المقاومة كإسلامية. ومؤدى ذلك، تجاوز حالة الغربة عن المقاومة التي يعيشها والبناء على فهم جديد لتلك المرحلة يمكنه من وصل ما انقطع ويساعده، خصوصاً، على ابتكار دور مقاوم له ضمن الظروف الحالية، أكثر فاعلية وتأثيراً. وجوهر التقويم المنشود يقوم على التركيز على النصف الممتلئ من الكوب، بعد أن استهلك أكثر من عقد من الزمن في التركيز على النصف الفارغ.
فلقد حقق الشيوعيون إنجازاً تاريخياً كبيراً سيكون له الأثر الكبير على جوهر التطورات اللاحقة في لبنان والمنطقة. لكنهم كادوا يطيحونه نتيجة تركيزهم، المبالغ فيه في أحيان كثيرة، على الاتهامات بالإقصاء ومحاولة توظيف ذلك في المعادلة الداخلية، مع ما يتطلبه من تعبئة وتجييش ضد من كانوا، آنذاك، منخرطين في العمل المقاوم. المطلوب اليوم هو التركيز على أن جبهة المقاومة حققت أمرين في غاية الأهمية:
1- حررت القسم الأساسي من الأراضي المحتلة، وهذا إنجاز يتعمد كثيرون تجاهله أو التقليل من أهميته الواضحة للعيان.
2- حولت «قرار» المقاومة إلى خيار شعبي واسع، لا يهم من يقوده في المراحل المختلفة، علماً بأن الرصاصات الأولى أطلقت بينما كان لبنانيون كثر من كل الطوائف يرشون الأرزّ على جنود الاحتلال.
هذان الإنجازان يجب أن يبقيا محفورين في ذاكرة الحزب والشعب والتاريخ باعتبارهما «إرثاً وطنياً» لا يقلل من شأنه ما حصل لاحقاً. النظر إلى المقاومة الإسلامية باعتبارها امتداداً لمقاومة الحزب وعموم الشعب اللبناني هو، بهذا المعنى ومن دون مبالغة أو افتراء، انتصار للحزب ولجبهة المقاومة الوطنية وتثمير لنضالات أبطالها وتضحياتهم. فقد أدى هؤلاء الأبطال واجبهم الوطني على أكمل وجه، وبطولاتهم وانتصاراتهم ستبقى دائماً مصدر فخر واعتزاز لحزبهم ولوطنهم، وليس مفهوماً ولا مبرراً أن يبقوا ضحية مشاعر الخيبة والإحباط نتيجة تراجع المساهمة «العسكرية» في المقاومة، وإن يكن مفهوماً، لا بل ومطلوباً، ألا يشعروا بالرضى عن أوضاع حزبهم وسياساته، وخصوصاً تلك التي تتجاهل المقاومة بشتى أشكالها.
لقد حققت «جمول» الأساسي من غايتها قبل أن ينقطع نضالها بسبب ظروف لم تعد اليوم قائمة. ويمكن «جمول»، في ظل الظروف الجديدة، أن تستأنف نضالها بأشكال «جديدة»، إن هي تجاوزت أسباب إعاقتها، وذلك لأن ثمة مهمات تحتاج إلى من ينجزها، وثمة ظروف تساعد على النجاح؛ فالعالم اليوم يعيش مخاض ولادة تعددية قطبية جديدة حفزتها الأزمة الرأسمالية العامة والحروب الإمبريالية المدمرة، ولكن غير الناجحة. ويتزايد دور اليسار العالمي، حيث حقق نجاحات في أميركا اللاتينية ويعيش مرحلة انتعاش جديدة في بلدان أوروبا الصناعية، ويسعى في البلدان العربية، إلى إعادة إنتاج نفسه من رحم الانتفاضات الشعبية خارج الأطر التقليدية، ويشكل كل هذا بيئة مواتية للاحتضان والدعم. في المقابل، تستمر منطقتنا ساحة لحرب إمبريالية لا يزال الهدف الرئيسي فيها يتمحور حول تصفية القضية الفلسطينية وتأبيد الاحتلال الإسرائيلي وضمان هيمنته وفرضه مكوناً طبيعياً في المنطقة. ومن أجل هذا الهدف استُهدف لبنان قبلاً، ويجري استهداف سوريا حالياً كما يعمل من أجل تقويض المحور الإقليمي ــ الدولي الناشىء حولها.
لكن شكل الحروب الإمبريالية بات مختلفاً أيضاً؛ فالحروب «الجديدة» (ألبير داغر ــ «الأخبار») لم تعد تستند إلى الجيش النظامي بالدرجة الأولى، بل إلى وسائط وأدوات أخرى (مرتزقة ــ إعلام ــ منظمات غير حكومية ممولة ــ شبكات دعم وتنسيق خارجي إلخ). ويفيد هذا التوصيف في توسيع قاعدة بنك الأهداف بالنسبة إلى الفعل المقاوم بما يفتح أمامه مجالات إضافية أخرى شبه ــ عسكرية وشعبية وغير تقليدية. وتعتمد هذه الحروب على بثّ الكراهية ضد «الآخر»، تمهيداً لإلغائه بدل اكتسابه، ويعني ذلك ــ في ظروف بلدان المشرق العربي خصوصاً، وفي الحرب الدائرة على سوريا نموذجاً ــ إثارة وتعميق حروب دينية وحروب مذهبية، تفقد خلالها القوى الطائفية بالضرورة – حتى لو كانت مقاومة – الكثير من إمكانات دورها المقاوم.
إن التطورات الجارية وآفاقها المنتظرة تدفع، موضوعياً، نحو قيام حركة مقاومة، أقله في بلدان المشرق العربي حيث فلسطين والاحتلال المباشر، تكون وطنية وعلمانية لا يمكن قوى المقاومة ذات الطبيعة الطائفية أن تؤدي دوراً حاسماً فيها لجهة تطويرها وتوسيعها وتصعيدها على الصعيد الشامل، وإن كان «حزب الله» قادراً، على سبيل الافتراض، على الانتصار في معركة وجودية حاسمة ضد العدو تكون ساحتها محصورة بلبنان. ومن نافل القول أن القوى اليسارية والعلمانية الوطنية والتقدمية يمكن أن تتأهل بسهولة للتصدي لهذه المهمات، وبرنامج «جمول» هو بهذا المعنى جاهز ولا يحتاج إلا إلى بعض الإرادة وكثير من الحكمة والمسؤولية. وإذا ما ركزنا على الوضع في لبنان، ظهر المشهد، انطلاقاً من هذه الرؤية، أكثر وضوحاً؛ فالعملاء منتشرون في كل مكان وثقافة التساهل مع العملاء عادت لتتقدم، سواء في مؤسسات الدولة أو على صعيد المجتمع المدني. كذلك إن الولايات المتحدة شاركت بشكل معلن في عدوان تموز الذي غطته بعض الدول الخليجية أيضاً. كل هذا يشكل، من حيث المبدأ، سلة من المهمات والقضايا المتعلقة بصلب القضية الوطنية بما هي قضية التصدي للعدو الصهيوني «وأدواته»، وكذلك لحلفائه الإمبرياليين والرجعيين. ويضاف إلى كل ذلك استمرار احتجاز العدو لجثامين عدد من شهداء الجبهة وقضية استمرار اعتقال المناضل جورج إبراهيم عبد الله في السجون الفرنسية. ومع ذلك تقف المقاومة الإسلامية، للأسباب التي ذكرناها، عاجزة عن التصرف حيال كل هذا.
إن المبادرة لإعادة إحياء «جمول»، من أجل استكمال مسيرتها من خلال التصدي لهذه المهمات، وكذلك الاستعداد لأي عدوان إسرائيلي مستقبلاً، هو أمر بيد كوادر الجبهة وأنصارها وحزبها الشيوعي، ولا يوجد من هو قادر على منع حصوله. كذلك فإنه يكتسب ضرورة إضافية اليوم بسبب وقوع المقاومة الإسلامية أسيرة طبيعتها الطائفية وتحالفاتها السياسية المحلية، وخضوعها للعبة توازنات سياسية غالباً ما تدفعها إلى تقديم تنازلات، وهو ما يجعلها عاجزة عن الإحاطة بكل ما يستوجب الإحاطة. وهذا بدوره يفتح الباب واسعاً أمام دور «تكاملي» لجمول مع المقاومة الإسلامية إذا ما كان «التنسيق» أمراً متعذراً لسبب أو لآخر.
إن هذه الإمكانية الموضوعية المتاحة لا تلتقي فقط مع تطلب متزايد من «أبناء جمول»، بل هي تشكل مناسبة لهم، جميعاً، للانخرط مجدداً في قلب الصراع والمشاركة في صوغ السياسات الكبرى، وخصوصاً داخل حزبهم، بعد طول شعور بالتهميش. وسيساعد هذا الأمر على إعادة تظهير أعداد كبيرة من المناضلين الذين ذهبوا ضحية سياسات خاطئة وتكتيلهم كقوة مؤثرة لا يمكن تجاهل وزنها ودورها. ومن نافل القول إن تحقيق ذلك يتطلب عملاً مسؤولاً وجدياً، بعيداً عن الحماسة والانفعال، لتوفير كامل الشروط الضرورية للنجاح. ويأتي في طليعة تلك الشروط:
1- إحداث التغيير الضروري في الحزب الشيوعي عبر مؤتمر استثنائي بات فرض انعقاده واجباً.
2 - حسم التموضع الاستراتيجي في الصراع الدائر في المنطقة وبناء التحالفات الضرورية بعيداً عن لوثة المعايير الليبرالية.
3 - إعادة الاعتبار لأهمية كل مناضل في صفوف المقاومة، باعتباره راسمالاً أكبر من التقويم.
4 - تثبيت مقولة أن الصراع الطبقي، في البلدان الكولونيالية، إنما يخاض في مجال الصراع الوطني خصوصاً.
الانتصار لجمول في عيدها الثلاثين هو، بهذا المعنى، دعوة إلى تجديد حزبها وإحداث التغيير الجذري والضروري فيه بالاتجاه الذي يجعله حزباً يسارياً ــ وطنياً تقدمياً مقاوماً ــ حزباً مؤثراً وفاعلاً ومهاباً ومحترماً وعصياً على كل إغراءات الثقافة السياسية السائدة. حزب لمناضلين أحرار متساوين في الحقوق والواجبات تحت قيادة تحرص على التفوق الأخلاقي الذي كان يميز الشيوعيين وقيمهم النضالية النبيلة. حزب يحمي أبناءه ولا يأكلهم أو يتركهم على قارعة الطريق أو في غياهب النسيان، فذلك ضروري لحماية التجربة الجديدة وتحصينها من الأمراض التي عانتها «جمول». وفي ما خلا ذلك، ستكون «جمول» مضطرة إلى شق طريقها... على طريقتها.
*عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي اللبناني