في الخامس عشر من الشهر الحالي تسلّم فرانسوا هولاند مهامه رسمياً. هي المرة الثانية التي يصل اشتراكي الى قصر الاليزيه في وقت يشهد العالم ازمات استثنائية وتبدّلات استراتيجية: ازمة مالية واقتصادية عالمية، أزمة يونانية ــ اوروبية، أزمة يورو، ازمة ايرانية نووية، سقوط انظمة في الشرق الاوسط ووصول الاسلاميين الى الحكم فيه، الخ. أمام هذا الواقع العالمي، من الطبيعي ان يتابع العالم بشغف «استثنائي» الانتخابات الفرنسية الرئاسية الاخيرة.فعلى رغم تراجع قوتها منذ الحرب العالمية الثانية، تبقى فرنسا احدى الدول الكبرى في العالم ولسياستها تأثير في العديد من دوله بحكم واقعها الجيوسياسي. أرضها تبدأ في القارة الاوروبية وتمتد الى جزر عدة في مختلف المحيطات (الاطلسي، والهادي والهندي)؛ هي عضو دائم في مجلس الامن الدولي، ولها قواعد عسكرية في العديد من الدول أهمها في جيبوتي على البحر الاحمر (عند باب المندب)، وفي الامارات العربية المتحدة (عند مضيق هرمز). وهي واحدة من أكبر الدول الصناعية في العالم وعضو بارز في «مجموعة الثماني». وعلى المستوى الاوروبي، تشكل مع ألمانيا، العمود الفقري للوحدة الاوروبية. كما أنّها دولة متوسطيّة تتزعم الشراكة الاورو ــ متوسطيّة.
إضافة الى أهمية فرنسا العالمية، فإنّ انتقال السلطة الى الاشتراكيين (بعد سبعة عشر عاماً من حكم اليمين) يدفع بالمراقبين الى البحث في التغييرات التي يمكن ان تحدثها سياسة الرجل الذي سيقطن قصر الاليزيه لسنوات خمس... خصوصاً أنّ سلفه، نيكولا ساركوزي، لم يكن رئيساً «كلاسيكياً». إضافة الى نمطه الجديد في الحكم (والمتحرّر في حياته الشخصية)، احدث ساركوزي تبدّلاً في العلاقات الفرنسية ــ الاميركية، بعد الازمة الحادّة التي شهدها البلدان في العراق في 2003. في خطابه الاول أمام الكونغرس قال الرئيس اليميني للاميركيين: «اريد أن اكون صديقكم»، وعمل لتعميق هذه الصداقة. أراد ساركوزي استعادة دور فرنسا الدولي، بخاصة في الشرق الاوسط، ليس بالتمايز عن السياسة الاميركية ومعارضتها كما فعل اسلافه منذ الستينيات، انما بمواكبتها . فكان مندفعاً الى الامام، و«مغامراً» بالنسبة للبعض، في الملفات الخارجية في اوروبا والشرق الاوسط وافريقيا. تعرّض الاسلوب «الساركوزي» هذا للكثير من الانتقادات من قبل الفرنسيين. فهو احدى أسباب خسارته معركة الولاية الثانية. السؤال اليوم: هل يتابع خليفته السياسة نفسها؟ هل من تبدّل في سياسة فرنسا في الشرق الاوسط بانتقال الحكم من اليمين الى الاشتراكيين؟ كيف سيكون موقفها من الوضع اللبناني والازمة السورية؟
في حملته الانتخابية كان تركيز الرئيس الفرنسي الجديد على الملفات الداخلية (وابرزها اقتصادية واجتماعية: ازمة ديون، الحد من بطالة، اطلاق عجلة الانتاج...) والاوروبية (ازمة اليونان، ازمة اليورو...)، خصوصاً وأنّه رجل اقتصاد قبل أن يكون سياسياً. هذا لا يعني اهماله الملفات الخارجية الداهمة، بخاصة في الشرق الاوسط حيث يتم التأسيس لمرحلة جديدة. في هذه «الجغرافيا» لا نرى تغييرات جذرية في السياسة الفرنسية. فرانسوا هولاند، سيتابع، كما سلفه الاشتراكي فرانسوا ميتران (1981 ــ 1995)، «سياسة فرنسا العربية» التي أسس لها شارل ديغول. تقوم هذه السياسة على حسن الجوار مع العالم العربي والصداقة مع شعوبه والتعاون مع حكوماته، ودعم قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة» كحل للصراع العربي ــ الاسرائيلي.
إنّ المعطيات الجيوسياسية تفرض على فرنسا هذه السياسة. فهي دولة اوروبية ــ متوسطية، والحوضان الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط جزء أساسي من مجالها الحيوي، والوضع في دولهما له تأثير مباشر عليها أمنيا، وسياسياً، واجتماعيا ( الهجرة) واقتصادياً...
ولفرنسا علاقات تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية مع العالم العربي تعود الى قرون بعيدة، تطورّت كثيراً منذ القرن التاسع عشر. فالفرنسيون حفروا قناة السويس في مصر. ودعموا الشعوب العربية في نهضتها القومية والسياسية والثقافية. وفي باريس انعقد المؤتمر العربي الاول في 1913. وتطوّرت العلاقات الاقتصادية بين فرنسا والدول العربية الناشئة (على اثر سقوط السلطنة العثمانية) قبل اكتشاف النفط. كما اسّست الارساليات الفرنسية المدارس والجامعات في العديد من الدول العربية بهدف التقارب الثقافي. واللغة الفرنسية لا تزال اساسية في العديد من الدول العربية المنتمية الى المنظمة الفرنكوفونية.
في ما يتعلّق بلبنان، إنّ دعم سيادته واستقلاله وقراره الحرّ هي ثوابت فرنسية. فالعلاقات المتميّزة مع البلد الصغير ذي الواجهة العريضة على الحوض الشرقي للمتوسط، وحيث الوجود المسيحي الفاعل (وإن بشكل اقلّ) هي اساسية بالنسبة لفرنسا في سياستها الشرق اوسطية. يرتبط البلدان بعلاقات تاريخية سياسية واقتصادية وثقافية. وبالتالي سيستمر الدعم الفرنسي لقوى 14 آذار وإن اختلف في اسلوبه وحجمه عن دعم اليَمينيين، جاك شيراك ونيكولا ساركوزي.
أما في سوريا، فلا تبديل في الموقف الفرنسي لأسباب عدة: اولاً، لا عودة الى الوراء في الازمة السورية. فالنظام يضعف يوماً بعد يوم. والثورة تزداد قوة وانتشاراً في الداخل، مع دعم مالي ودبلوماسي وربما عسكري من الخارج. ثانياً، إنّ فرنسا، بلد الثورات الشعبية ضد الانظمة الديكتاتورية وواضع اول شرعة لحقوق الانسان (1789)، لا يمكنها إلا ان تدعم الشعوب في سعيها نحو الديموقراطية. ثالثاً، لفرنسا تاريخ طويل ومرير مع نظام الاسد، الاب والابن، محطاته الاساسية بدأت بدخول القوات السورية لبنان في 1976، ثم باغتيال السفير الفرنسي لويس دولامار في بيروت في ايلول 1981. تبعها تفجير مقر القوات الفرنسية في تشرين الاول 1983 الذي اودى بحياة 58 جنديا، من ثم اختطاف رهائن فرنسيين خلال الثمانينيات... وصولاً الى اغتيال رفيق الحريري في 2005 ( أصابع الاتهام الفرنسية في كل هذه الاحداث تتجّه إما الى دمشق مباشرة أو الى منظمات تدعمها). فنظام الاسد، الذي كان يسعى لتحقيق «المرحلة الاولى» من «سوريا الكبرى»، وقف بقوة في وجه السياسة الفرنسية التي تدعم منذ السبعينيات منظمة التحرير الفلسطينية وسيادة لبنان واستقلاله.
بالتالي، مخطئ من يراهن على تبديل في السياسة الفرنسية تجاه الازمة السورية. وقد أخطأ الرئيس بشار الاسد في دعوته الرئيس الفرنسي الجديد الى «التفكير في مصلحة بلاده» وتغيير سياسته ازاء سوريا. فمصلحة فرنسا ليست مع هذا النظام الذي لم يتعاون مع دعم باريس له (في بداية القرن الحالي) ولم يعط التسهيلات اللازمة للاستثمارات الفرنسية في سوريا، بخاصة في قطاع النفط. ومصلحتها ليست مع نظام سوري متحالف مع ايران في مواجهة الدول العربية الصديقة لفرنسا. إن مصلحة هذه الاخيرة هي في نظام ديموقراطي في سوريا، يحترم حقوق الانسان، يؤمن بالحريات، ومنفتح على الجوار... فتتوفر في سوريا شروط التوقيع على معاهدة برشلونة والانضمام الى الشراكة الاورو ــ متوسطية. وتُفتح أمام اوروبا البوابة السورية، ذات الموقع الاستراتيجي على الحوض الشرقي للمتوسط، والمؤدية الى دول الشرق الاوسط والخليج العربي.
يبقى ان ننتظر ما ستكون عليه سياسة الرئيس الفرنسي الجديد، الذي انتخبه الفرنسيون المسلمون من اصول عربية، في علاقته مع الاسلاميين الذي وصلوا الى الحكم في تونس، وشكّلوا الحكومة في المغرب، وحصلوا على الغالبية النيابية في مصر، ولهم قواعد شعبية واسعة في ليبيا واليمن وسوريا. فهل ستساهم سياسته مع الانظمة العربية الجديدة في التخفيف من حدّة تنامي الشعور الديني المُعادي بين الشرق الاسلامي والغرب المسيحي؟ تجربة باراك حسين اوباما لم تكن مشجّعة.
* باحث في شؤون الشرق الاوسط، استاذ
في جامعة الكسليك